البطريرك الماروني يترأس القداس الإلهي في ذكرى مرور أربعين يوما على انفجار مرفأ بيروت وسقوط ضحاياه
قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظته مترئسا القداس الإلهي في بازيليك سيدة لبنان – حريصا "نُحيي اليوم الذكرى الأربعين لضحايا انفجار مرفأ بيروت، الموتى والجرحى والمفقودين والمشرَّدين من دون مأوى، والمنكوبين ببيوتهم ومؤسَّساتهم ومتاجرهم، بالاضافة إلى الدمار الكبير في المنازل والمستشفيات ودور العبادة والمدارس والجامعات والمطرانيات والفنادق والمطاعم وسواها من المؤسَّسات العامَّة والخاصَّة. من أجلهم جميعًا نقدّم هذه الذبيحة الإلهيَّة، وإليها نضمّ ذبائحهم الشخصيَّة، لراحة نفوس الموتى، وعزاء عائلاتهم، وشفاء الجرحى، وإيجاد المفقودين، وانفراج المنكوبين، ومساندة الفقراء والمعوزين". وأضاف غبطته يقول " ونذكر بالصَّلاة كلَّ الذين مَدُّوا يد المساعدة سخيَّةً بالتطوُّع وتوفير المساعدات ونخصُّ الأبرشيَّات والرَّهبانيَّات والمؤسَّسات الاجتماعيَّة – الإنسانيَّة، مثل كاريتاس لبنان والصَّليب الأحمر اللُّبنانيّ والبعثة البابويَّة وجمعيَّة مار منصور دي بول ومثيلاتها، والنقابات والجمعيات الكنسية والكشفية والمؤسَّسات التابعة للبطريركيَّة المارونيَّة، وبخاصَّة المؤسَّسة المارونيَّة للانتشار وجمعيَّتها المعروفة بـ Solidarity، والمؤسَّسة البطريركيَّة للانماء الشَّامل، بالاضافة إلى الرابطة المارونيَّة، وإلى الجمعيَّات والمبادرات التي نشأت بعد كارثة الانفجار. ونذكر بصلاتنا أيضًا الكرسي الرسوليّ والدول الصَّديقة، والمؤسَّسات الخيريَّة غير الحكوميَّة الأجنبيَّة التي تبرَّعت بالمال والمساعدات العينيَّة، الغذائيَّة والطبيَّة، وساعدت في البحث عن المفقودين. ونوجّه تحيَّةً خاصَّة إلى الجيش اللُّبنانيّ الذي يعمل جاهدًا في مسح الأضرار، وإلى الأجهزة الأمنيَّة، والدفاع المدنيّ، وفوج الاطفاء الذين يعرّضون حياتهم للخطر. إنَّنا لا نستنفد الجميع بهذه اللَّائحة المختصرة، لكنّهم معروفون جميعهم مِن الله، وهو سبحانه يفيض عليهم المزيد من عطاياه، لكي تظلَّ محبَّتُه فاعلةً في تاريخ البشر".
ونقلا عن الموقع الإلكتروني للبطريركية المارونية، تابع البطريرك الراعي عظته قائلا "في ضوء انتصار صليب يسوع لفداء العالم، نقول لكم يا أهالي ضحايا الانفجار: مات أحبَّاؤكم، أحبّاؤنا، المئة واثنان وتسعون، بالنار ولكنّهم يقومون بالنور. ماتوا بجريمةٍ متوقَّعةٍ، لكنّهم يَرقُدون بعناية الله. لا نُحيي ذكراهم الأربعين لنطوي صفحةً، لن تُطوى أبدًا، فحياتُهم لن تذهب في ذمّةِ مجهول. بل نُحيي ذكراهُم لنفتحَ قضيّةً لن نُغلقَها حتَّى معرفةِ الحقيقة. إنَّ التخبُّطَ في التحقيقِ المحلّي والمعلومات المتضاربةَ وانحلالَ الدولةِ والشكوك المتزايدة في أسباب الانفجار، والحريق الثاني المفتعل والمبهم منذ ثلاثة أيَّام، وإهمال المسؤولين عندنا، ووقوع ضحايا أجانب كانت من بينها زوجة السفير الهولندي في لبنان ونحي هنا سعادة السفيرة القائمة باعمال السفارة الهولندية الحاضرة بيننا ونحملها تعازينا الحارة الى سعادة السفير. كل ذلك يستحثنا أكثر فأكثر على المطالبةِ مجدَّدًا بتحقيقٍ دوليٍّ محايدٍ ومستقِلّ. فالعدالة لا تتعارض مع السيادة، ولا سيادةَ من دون عدالة. وما معنى سيادةٍ تُنتَهكُ يوميًّا داخليًّا وخارجيًّا؟ وإذا كانت السلطاتُ اللبنانيّةُ، لأسبابٍ سياسيّةٍ، تَرفض التَّحقيقَ الدوليَّ، فواجبُ الأمم المتَّحدة أن تَفرِضَ ذلك لأنَّ ما حصلَ يقاربُ جريمةً ضدَّ الإنسانيَّة. فإذا كان قتلُ شعبٍ، وتدميرُ عاصمةٍ، ومَحوُ تراثٍ لا يُشكّلون معًا جريمةً ضدَّ الإنسانيّة، فأيُّ جريمةٍ أفدَح؟"
وأضاف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي: أجل "أتت عندنا الساعة" التي أعلنَها الرَّبُّ يسوع لأولئك اليونانيين الذين أتَوا من بعيد ليرَوه (راجع يو12: 20-23). وهي ساعة القضاء على المؤامرة بحقّ بيروت ولبنان واللبنانيين، هذا الوطن صاحبِ النموذج والرسالة في محيطه العربيّ، والمميّز بنظام العيش المشترك، والتعدُّديَّة الثقافيَّة والدينيَّة، والديمقراطيَّة القائمة على الحريّات العامَّة وحقوق الإنسان، والانفتاح الثقافيّ والتجاريّ على الدول، والحياد الناشط والضروريّ في هذه البيئة العربيَّة والمشرقيَّة لكي يكون لبنان مكان التلاقي والحوار للجميع؛ إنّه بحياده الناشط ضرورةٌ لهذه البيئة، ومصدرُ حياةٍ نابضة له وعيشٍ كريم لشعبه". وتابع غبطته قائلا " لقد اتَّضحت معالم المؤامرة بحقّ بيروت ولبنان: في تشويهِ مطالب الثوَّار والاعتداءِ عليهم، واندساسِ فرقٍ منظَّمةٍ بين صفوفهم وبَعثَرةِ مجموعاتِهم المسالمة؛ وفي تخريب قلب بيروت لمنع ازدهارِها وتكسيرِ مؤسّساتِها السياحيَّة والتجاريَّة ومعالـمها الأثريَّة، وفي تحطيم المصارف وضربِ الثقة بها؛ وفي رفعِ الشعارات المذهبيَّة وإثارةِ النعرات الطائفيَّة والمناطقيَّة؛ وفي تفجيرِ المرفأ الذي دكَّ نِصفَ العاصمةِ وصولًا إلى الحريقِ الكبير منذ ثلاثة أيَّام. هذه كلُّها تُشكِّلُ محضرَ إدانةٍ واضحةٍ لمن تشملهم الشّكوكُ والتُّهم".
قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظته: "إنَّ "ساعة يسوع" كانت ساعة إتمام الإرادة الإلهيَّة بخلاص العالم بقوَّة موته على الصليب وقيامته. فسمَّاها "ساعةَ تمجيده". وجعلَها نهجًا لتحقيق العظائم في هذا العالم، إذ قال: "مَن يُحبْ نفسَه يُهلِكْها"، بحيث إنَّ محبَّة الذات بما لها من شهوات العين والجسد وكبرياء الحياة هي هلاكها. و"مَن يبغضْ نفسَه في هذا العالم يحفظْها لحياة الأبد"، بمعنى أنَّ التجرُّد من الذات بالانتصار على الشهوات هو خلاصها الأبديّ (راجع يو 25:12). الأنانيَّة لا تعرفُ إلى الخير العامّ سبيلاً، وصاحبُها لا يعرفُ طعمَ الحريَّة وفرحَها. اجل يا اهل الشهداء الاحباء، وبالرغم من كل ألم هي ساعة تمجيدهم لانه بموتهم يولد لبنان الجديد". وأضاف غبطته يقول" لماذا يتعثَّر تأليف حكومةٍ إنقاذيَّة مصغَّرة مستقلَّة، توحي بالثقة والحياد في اختيار شخصياتها المعروفة بماضيها وحاضرها الناصعَين، أشخاصٍ غير ملوَّثين بالفساد؟ أليس لأنَّ المنظومة السياسيَّة غارقةٌ في وباء الأنانيَّة والفساد الماليّ والمحاصصة على حساب المال العامّ وشعب لبنان؟ لا يمكن بعد الآن القبول بحكومةٍ على شاكلة سابقاتها التي أوصلت الدولة إلى ما هي عليه من انهيار، حكومةٍ يكون فيها استملاكٌ لحقائب وزاريَّة لأيّ طرف أو طائفة باسم الميثاقيَّة. ما هي هذه الميثاقيّة سوى المناصفة في توزيع الحقائب بين المسيحيين والمسلمين، وعلى قاعدة المداورة الديمقراطيّة، ومقياس الانتاجيّة والاصلاح؟ ثمّ أين تبخّرت وعود الكتل النيابيَّة، عند الاستشارات، بأنها لا تريد شيئًا ولا تضع شروطًا؟ هل تبخّرت كلُّها بقوّة الاعتداد بالسلطة والنفوذ والمال والسلاح والاستقواء بالخارج؟ فإنّا نذكّرهم بمصير ذاك الجمَل الذي كان يحتقر رمال الصحراء ويدوسها بأخفافه العريضة مستقويًا عليها بضخامة جثته وثقله. وكيف ذات يوم عصفت الريح وقالت لحبَّات الرمل: "تجمّعوا وتوحّدوا وتعالوا نسحق الجمَل معًا". فكانت عاصفةٌ من الرمال شديدةٌ طمرَت ذاك الجمَل ولم تترك له أثرًا يُنظر!"
وتابع البطريرك الراعي قائلا "فاتَّعظوا أيُّها المسؤولون السياسيُّون! الشعب المجروح وثورة الشباب الغاضبة أقوى منكم، لأنَّ قوَّتها مستمدَّة من الضحايا التي ذُبحت على مذبح إهمالكم ومصالحكم، ومن الجرحى والمفقودين والمنكوبين، ومن فقرهم وعوزهم وحرمانهم. أجل، إنَّها "ساعتُهم" المستمدَّة من ساعة المسيح الذي ارتضى الموت على الصليب لفداء كلّ إنسان من شروره وأنانيَّته وكبريائه، وقام من الموت ليبثَّ الحياة الجديدة في تاريخ البشر. وهكذا تبقى دعوته لكلّ إنسان كي ينجذب إليه وإلى محبَّته، قائلاً: "وأنا عندما أُرفَع عن الأرض، أجتذب إليَّ كلَّ إنسان" (يو 32:12). وقال غبطته "إنَّها ساعة ولادة لبنان الجديد من فلذة اكبادكم التي وحلت الى مجد السماء، مثل ولادة السنبلة من حبَّة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت، كما أنبأ الرَّبُّ يسوع في إنجيل اليوم (راجع يو 24:12).
وفي ختام عظته مترئسا القداس الإلهي في بازيليك سيدة لبنان – حريصا في ذكرى مرور أربعين يوما على انفجار مرفأ بيروت وسقوط ضحاياه، قال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي "يا ربّ، أرِح في ملكوتك السماوي نفوس ضحايانا! عزِّ عائلاتهم، إشفِ الجرحى، إكشف المفقودين، افتقد المشرّدين والمنكوبين، كافئ المحبّين والمحسنين والمتطوّعين، واحمِ لبنان وشعبه بقوّة صليبك، وبشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان وجميع القدّيسين. فنرفع إليك مع شهدائنا احبائنا المجد والتسبيح، أيها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الأبد، آمين".