رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة
يُحتفل اليوم 1 أيلول سبتمبر 2020 باليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة، ولهذه المناسبة وجه قداسة البابا فرنسيس رسالة استهلها بكلمات سفر الأحبار "قَدِّسوا سَنةَ الخَمْسين ونادوا بإِعْتاقٍ في الأَرضِ لِجَميعِ أَهْلِها، فتَكونَ لَكم يوبيلاً" (أح 25، 10). وذكَّر قداسة البابا بالاحتفال بهذا اليوم سنويا وخاصة منذ صدور الرسالة العامة "كن مسبَّحًا" عام 2015 وذلك في الفترة من 1 أيلول سبتمبر حتى 4 تشرين الأول أكتوبر عيد القديس فرنسيس الأسيزي، وأضاف أن في هذه الفترة، زمن الخليقة، يجدد المسيحيون في جميع أنحاء العالم الإيمان بالله الخالق ويتحدون بصورة خاصة في الصلاة والعمل من أجل حماية البيت المشترك. ثم أعرب البابا فرنسيس عن سعادته لاختيار العائلة المسكونية موضوع احتفال هذا العام "يوبيل الأرض" وذلك تزامنا مع الذكرى الخمسين ليوم الأرض.
ويتوقف الأب الأقدس في رسالته عند اليوبيل في الكتاب المقدس كزمن مقدس للتذكر، الرجوع، الراحة، الإصلاح والفرح. وخصص قداسته لكل من هذه الأفعال الخمسة قسما من الرسالة. وفي حديثه في القسم الأول حول اليوبيل كزمن تذكُّر قال البابا فرنسيس إننا مدعوون إلى تذكر أن المصير النهائي للخليقة هو الدخول في "سبت الله الأبدي". رحلة الخليقة تَحدث في الزمن، في إطار الأيام السبعة من الأسبوع، ودورة السبع سنوات، وسنة اليوبيل الكبرى التي تقع في نهاية سبع سنوات سبتية. وتابع قداسة البابا أن اليوبيل هو أيضا زمن نعمة لنتذكر دعوة الخليقة الأصلية وهي أن تكون وتزدهر كجماعة محبة، وجودنا هو مجموعة علاقات: مع الله الخالق، ومع الإخوة والأخوات الأعضاء في العائلة المشتركة، ومع جميع المخلوقات التي تسكن بيتنا المشترك نفسه. هذا إلى جانب كون اليوبيل زمنا للحفاظ على ذاكرة كوننا في علاقة، علينا أن نتذكر، وحسب ما كتب قداسته في الرسالة العامة "كن مسبَّحا"، أن كل شيء مترابط، وأن العناية الأصيلة بحياتنا ذاتها وبعلاقتنا مع الطبيعة هي جزء لا يتجزأ من الأخوّة والعدالة والإخلاص تجاه الآخرين.
وفي القسم الثاني تحدث الأب الأقدس عن اليوبيل كزمن رجوع، وقال إننا في حاجة إلى العودة لشفاء ما كسرنا من روابط توحدنا مع الخالق والكائنات البشرية الأخرى وسائر الخليقة. وواصل قداسته أن اليوبيل هو زمن رجوع إلى الله خالقنا المحب، وأضاف أنه لا يمكن العيش في انسجام مع الخليقة بدون سلام مع الخالق. وذكَّر في هذا السياق بكلمات البابا بندكتس السادس عشر "يبدأ الاستهلاك الوحشي للخليقة حيث لا يوجد الله، حيث المادة صارت مجرد مادة بالنسبة لنا، وحيث صرنا نحن أنفسنا المرجع الأخير لأنفسنا، وحيث الكلّ هو بكلّ بساطة ملكنا" (لقاء مع إكليروس أبرشية بولسانو - بريكسن، 6 أغسطس / آب 2008). وواصل البابا فرنسيس أن اليوبيل يدعونا مرة أخرى إلى أن نفكر في الآخرين، وخاصة الفقراء والأكثر ضعفا، ووصف اليوبيل بزمن لمنح الحرية للمظلومين ولجميع المقيّدين بقيود من مختلف أشكال العبودية الحديثة، بما في ذلك الاتجار بالبشر وعمل الأطفال القاصرين. تحدث قداسته في هذا القسم أيضا عن الحاجة إلى العودة إلى الإصغاء إلى الأرض، وعلينا أن نتذكر أننا جزء، ولسنا أسيادًا، في شبكة الحياة المترابطة. إنّ الانحلال الذي أصاب التنوع البيولوجي، وتزايد الكوارث المناخية بسرعة مذهلة، والتأثير غير المتكافئ للجائحة الحالية على أفقر الفئات وأكثرها ضعفًا، هي أجراس إنذار في وجه جشع الاستهلاك الجامح.
وفي حديثه في القسم الثالث عن اليوبيل كزمن للراحة قال البابا فرنسيس: حافظ الله بحكمته على يوم السبت حتى تستريح الأرض وسكانها فتتجدد الحياة فيها وفيهم. ومع ذلك، فإنّ أنماط حياتنا اليوم تدفع الكوكب إلى ما وراء طاقته. الطلب المستمر للنمو، ودورة الإنتاج المستمرة، والاستهلاك، كل ذلك يُنهك البيئة. الغابات تتلاشى، والتربة تتآكل، والحقول تختفي، والصحاري تتسع، والبحار تزداد ملوحة، والعواصف تشتد: الخليقة تئن!. وتابع مشيرا إلى حاجتنا اليوم إلى أن نجد أساليب حياة تعيد إلى الأرض الراحة التي تحتاج إليها، وسبل عيش كافية للجميع، دون تدمير النظم البيئية التي تحافظ على حياتنا. ثم توقف الأب الأقدس عند الجائحة الحالية فقال إن الأزمة منحتنا إلى حد ما الفرصة لنطور طرقا جديدة للعيش وأوصلتنا إلى مفترق طرق، وشدد على ضرورة الاستفادة من هذه اللحظة الحاسمة لوضع حد لأنشطة وغايات زائدة ومدمرة، ولإنماء قيم وروابط ومشاريع منتجة. وأضاف: يجب أن نعيد النظر في عاداتنا في استخدام الطاقة والاستهلاك والنقل والتغذية. نحن بحاجة إلى أن نزيل الجوانب غير الأساسية والضارة في اقتصادنا، وأن نبتكر طرقًا مثمرة في التجارة والإنتاج ونقل الخيرات.
اليوبيل كزمن إصلاح كان محور القسم الرابع في الرسالة، وقال البابا فرنسيس إن اليوبيل زمن لاستعادة الانسجام الأصلي للخليقة ولإصلاح العلاقات الإنسانية التي أصابها التلف. وهذا يدعونا إلى إعادة إقامة علاقات اجتماعية متعادلة، فنعيد إلى كل فرد حريته وخيراته الخاصة، ونلغي ديون الآخرين. لذلك يجب ألا ننسى تاريخ استغلال جنوب الكرة الأرضية، والذي تسبب في مشاكل بيئية ضخمة، ويرجع ذلك أساسًا إلى نهب الموارد والاستخدام المفرط للأماكن البيئية المشتركة من أجل التخلص من النفايات. وجدد قداسته النداء لإلغاء ديون الدول الفقيرة في ضوء الآثار الخطيرة للأزمات الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي يجب أن تواجهها بعد فيروس كورونا. أشار قداسته أيضا إلى ضرورة إصلاح الأرض مشددا على أهمية استعادة التوازن المناخي وعلى ضرورة عمل كل ما يمكن للحد من ازدياد متوسط درجة الحرارة العالمية إلى ما دون 1،5 درجة مئوية، كما ودعا واستعدادا للقمة المناخية التي ستُعقَد في غلاسكو في المملكة المتحدة (COP 26) كل الدول إلى تبنى أهداف وطنية طموحة في ما يخص الحد من انبعاث الغازات. أشار قداسة البابا من جهة أخرى إلى أهمية استعادة التنوع البيولوجي، كما ودعا إلى حماية جماعات السكان الأصليين من نشاط الشركات ولا سيما متعددة الجنسيات والتي تصنع في البلدان النامية ما لا يمكنها أن تعمل في البلدان التي توفّر لها رؤوس الأموال.
ثم كان كون اليوبيل زمنا للفرح محور القسم الخامس والأخير في رسالة الأب الأقدس، وتحدث هنا عن ارتفاع صراخ الأرض والفقراء وأضاف أننا في الوقت نفسه شهود أن الروح القدس ما زال يلهم الأفراد والجماعات في كل مكان لكي يتحدوا من أجل إعادة بناء بيتنا المشترك، وأن يدافعوا عن الفئات الأكثر ضعفًا. وتحدث عن الفرح مع رؤية الكثير من الشباب والجماعات، وخاصة السكان الأصليين، في الطليعة لمواجهة الأزمة البيئية، وأيضا حين نرى أن الذكرى السنوية الخاصة للرسالة العامة "كن مسبَّحًا" تلهم العديد من المبادرات على المستوى المحلي والعالمي للعناية بالبيت المشترك والفقراء. وأضاف: يجب أن تؤدي هذه السنة إلى خطط فعالة طويلة الأجل لتحقيق تربية بيئية متكاملة في العائلات والرعايا والأبرشيات والجمعيات الرهبانية والمدارس والجامعات والرعاية الصحيّة والمشاريع والمؤسسات الزراعية وفي العديد من المجالات الأخرى. من المفرح أيضا، حسب ما ذكر البابا فرنسيس في ختام رسالته لمناسبة اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة، أن الجماعات المؤمنة ما زالت تتقارب لخلق عالم أكثر عدلاً وسِلمًا واستدامة. إنه لسبب فرح خاص أن يصبح "زمن الخليقة" مبادرة مسكونية حقًا. وختم لنفرح أيضا لأن الخالق، في محبته، يدعم جهودنا المتواضعة من أجل الأرض. فهي أيضا بيت الله، حيث كلمته "صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا" (يو 1، 14)، وهي المكان الذي يتجدّد فيه فيض الروح القدس باستمرار.
"أرسل روحك، يا ربّ، فيتجدّد وجه الأرض" (را. مز 104، 30).