البابا فرنسيس في لقاء الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان: أتيت حاجًا لتجديد الشركة الرسولية وتغذية المحبة الأخوية
قام قداسة البابا فرنسيس اليوم السبت ٤ كانون الأول ديسمبر، أول أيام زيارته الرسولية إلى اليونان قادما من قبرص، بزيارة صاحب الغبطة إيرونيموس الثاني رئيس أساقفة أثينا واليونان للكنيسة الأرثوذكسية. وفي لقاء تالٍ شارك فيه المرافقون للأب الأقدس ورئيس الأساقفة بدأ البابا فرنسيس حديثه بهذه التحية: "نِعمَةٌ وسَلامٌ مِن لَدُنِ اللهِ" (الرّسالة إلى أهل رومة 1، 7). وتابع: أحيّيك بهذه الكلمات التي قالها الرّسول الكبير بولس، وهي الكلمات نفسها التي وجّهها إلى المؤمنين من أهل رومة، أثناء تواجده على أرضٍ اليونان. لقاؤنا اليوم يجدّد هذه النّعمة وهذا السّلام. ثم تابع أنه يأتي إلى هنا حاجًّا، باحترامٍ وتواضعٍ كبيرَين، من أجل تجديد تلك الشّركة الرّسوليّة وتغذية المحبّة الأخويّة.
ذكَّر الأب الأقدس بعد ذلك بلقائه صاحب الغبطة إيرونيموس الثاني قبل خمس سنوات في لسبوس، في حالة الطّوارئ المرتبطة بإحدى أكبر المآسي في عصرنا، وهي مأساة الكثير من الإخوة والأخوات المهاجرين حسب ما قال قداسته. وأكد أننا لا يمكننا أن نتركهم في اللامبالاة، ويُنظر إليهم على أنّهم عبءٌ يجب التعامل معه، أو أسوأ من ذلك، أن نلقي مسؤوليته على آخرين. ثم توقف عند النظر إلى البحر الأبيض المتوسّط الذي يحيط بنا، ليس فقط على أنّه مكان يثير القلق ويفرق، ولكن أيضًا على أنّه بحرٌ يوحّد. وانطلاقا من الحديث عن أشجار الزيتون المعمرة التي توحد الأرضي حولها أراد البابا التأمل في الجذور التي نتقاسمها، فقال إن جذورنا المشتركة هي الجذور الرسولية. وأضاف أن هذه الجذور التي نمت من بذار الإنجيل في الثقافة الهيلينيّة بدأت تعطي ثمارًا كثيرة، مذكرا بالآباء القدامى الكثيرين والمجامع المسكونيّة الكبرى الأولى. وتابع البابا فرنسيس متحدثا بأسف عن أننا كبرنا مبتعدين وقد أصابتنا السّموم الدنيويّة، وزادت الشكوك من المسافة بيننا، وتوقّفنا عن تنمية الشّركة. واعترف بوجود أعمال ومواقف علاقتها ضعيفة أو لا علاقة لها بيسوع والإنجيل، بل مطبوعة بالأحرى بالتعطش إلى المكاسب والسلطة، أعمال ومواقف أذبلت الشركة، وأضاف أنه يشعر بالحاجة إلى تجديد طلب الغفران إلى الله والإخوة على الأخطاء التي ارتكبها الكثير من الكاثوليك. إلا أنه أراد التأكيد من جهة أخرى على العزاء الكبير الناتج عن اليقين بأنّ جذورنا رسوليّة، وأنّه على الرّغم من تشوّهات العصر، فإنّ نبتة الله تنمو وتؤتي ثمارًا في الرّوح نفسه. وهي نعمة أن نعترف بثمار بعضنا البعض، وأن نشكر الرّبّ معًا على هذا.
وانطلاقا من الحديث عن الزيتون واصل البابا فرنسيس متحدثا عن المنتج النهائي لهذه الأشجار، الزيت، والذي قدّم النّور الذي أضاء ليالي العصور القديمة. وأضاف: يجعلنا الزّيت نفكّر في الرّوح القدس الذي وَلَد الكنيسة. والرّوح القدس فقط، ببريقه الذي لا يغيب، يمكنه أن يبدّد الظّلام ويضيء خطوات مسيرتنا. وتوقف الأب الأقدس أولا عند كون الروح القدس زيت الشّركة، وذكَّر بحديث صاحب المزامير عن الزّيت الذي يُنَضِّر وجه الإنسان. وتابع أننا بحاجة اليوم إلى أن نعترف بالقيمة الفريدة التي تتألّق في كلّ إنسان، وفي كلّ أخ! وإدراك هذه الوَحدة الإنسانيّة هو نقطة الانطلاق لبناء الشّركة. وأضاف البابا: تحمل الشّركة بين الإخوة البركة الإلهيّة. وتشبّهها المزامير بـ "الزَّيتِ الطَّيِّبِ على الرَّأْسِ، والنَّازِلِ على اللِّحْيَة" (سفر المزامير 133، 2). لذلك، يدفعنا الرّوح الذي ينسكب في أذهاننا إلى أخوّة أكثر قوة، وإلى أن نبني أنفسنا في الشّركة. لا نخف بعضنا بعضًا، إذًا، بل لنساعد بعضنا بعضًا على التعبد لله وخدمة قريبنا. وتضرع مذكرا بكلمات القديس بولس "حَيثُ يَكونُ رُوحُ الرَّبّ، تَكون الحُرِّيَّة"، كي يتغلّب روح المحبّة على مقاومتنا، ويجعلنا بناة للشركة. وتساءل: كيف يمكننا أن نشهد أمام العالم للوفاق في الإنجيل، إن كنّا نحن المسيحيّين ما زلنا منفصلين؟ وكيف يمكننا أن نعلن محبّة المسيح التي تجمع النّاس، إن لم نكن متّحدين فيما بيننا؟
ثم تحدث البابا عن كون الروح القدس زيت الحكمة، وقال: لقد مَسَحَ المسيحَ ويريد أن يلهم المسيحيّين. لنَنْم، في الطاعة لحكمته الوديعة، في معرفة الله ولننفتح على الآخرين. وأشاد في هذا السياق باهتمام الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان بالتنشئة والإعداد اللاهوتي، كما وذكَّر بالتنعاون بين الكنيستين على الصعيد الثقافي وبالمؤتمرات والمنتديات المشتركة، وذكَّر أيضا بمشاركة كنيسة اليونان الفعّالة في اللجنة الدوليّة المشتركة للحوار اللاهوتي. وأكد قداسته كون هذه مناسبات مكنت من إنشاء علاقات ودّيّة وإطلاق تبادل مفيد بين الأكاديميّين من كنائسنا، وتضرع كي يساعدنا الرّوح القدس في الاستمرار بحكمة في هذه المسارات.
ثم انتقل البابا فرنسيس إلى الحديث عن كون الروح القدس زيت التعزية، أي المؤيّد الذي يبقى قريبًا مِنَّا، بَلسَمًا للنَّفس، وشفاءً للجراح. وقال قداسته: مَسَحَ الرّوح القدس المسيح حتّى يُعلِنَ البشرى السارة للفقراء، ووللأسرى تخلية سبيلهم، والفَرَج للمظلومين (لوقا 4، 18). ولا يزال يدفعنا إلى الاهتمام بالأكثر ضعفًا وفقرًا، وإلى توجيه نظر العالم إلى قضيّتهم، التي هي قضيّة أساسيّة في نظر الله. وأضاف الأب الأقدس: . لنطوّر معًا أشكالًا من التّعاون في أعمال المحبّة، ولنَنفَتِح ونتعاون في القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة لخدمة بشر زمننا، ونحمل لهم تعزية الإنجيل. في الواقع، يدعونا الرّوح القدس اليوم أكثر من الماضي، إلى شفاء جراح البشريّة بزيت المحبّة. ثم ذكَّر البابا طلب المسيح نفسه من تلاميذه في لحظة الضّيق، عزاء القُرْبِ والصّلاة، وأضاف: وهكذا، تقودنا صورة الزّيت إلى بستان الزّيتون. قال يسوع: "أُمكُثوا هُنا وٱسهَروا" (مرقس 14، 34)، كان طلبه إلى الرّسل في صيغة الجّمع. اليوم أيضًا يريدنا أن نسهر ونصلّي حتّى نحمل إلى العالم تعزية الله، ونشفي علاقاتنا الجريحة، يجب علينا أن نصلّي من أجل بعضنا البعض. هذا ضروريّ من أجل الوصول إلى "تنقية الذاكرة التاريخية. وبنعمة الرّوح القدس، إنّ تلاميذ الرّبّ، تحركهم المحبّة وشجاعة الحقيقة والإرادة الصادقة في تبادل الغفران وفي المصالحة، لمدعوّون إلى إعادة النظر معًا في ماضيهم المؤلم. وتابع الأب الأقدس أن هذا ما يحثنا عليه بشكل خاص الإيمان بالقيامة، وقال: لقد تصالح الرّسل، الخائفون والمتردّدون، مع خيبة الأمل المدمرة بسبب آلام المسيح، عندما رأوا الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات أمامهم. وتحديدا من جروحه التي بَدَا شفاؤها مستحيلًا، استقوا أملًا جديدًا، ورحمةً غير مسبوقة، ومحبّةً أعظم من أخطائهم وبؤسهم، بإمكانها أن تحوّلهم إلى جسد واحد، يوحّده الرّوح القدس مع تعدّد أعضاء مختلفة كثيرة. ليحلّ علينا روح المصلوب والقائم من بين الأموات، وليعطنا "نظرة صافية وهادئة في الحقيقة، تحييها الرحمة الإلهيّة، قادرة على أن تحرّر الأرواح، وتثير في كلّ واحد منّا استعدادًا جديدًا للحياة. ليساعدنا على ألّا نبقى عاجزين بسبب سلبيّات الماضي والأحكام المسبقة القديمة، بل لننظر إلى الواقع بعيون جديدة. عندئذٍ، ستُفسِحُ ضيقات الماضي المجال لتعزية الحاضر، وسوف نتعزّى بكنوز النّعمة التي سنكتشفها مجددا في الإخوة.
وختم البابا فرنسيس كلمته: صاحب الغبطة، وأخي العزيز، ليرافقنا في هذه المسيرة العديد من القدّيسين اللامعين في هذه الأرض، والشّهداء، الذين للأسف، هم أكثر عددًا في العالم اليوم ممّا كانوا عليه في الماضي. هم من كنائس مختلفة على الأرض، ويعيشون معًا في السّماء نفسها. ليتشفّعوا حتّى يَفِيضَ علينا الرّوح القدس، زيت الله المقدّس، في عنصرة متجدّدة، مثلما فَاضَ على الرّسل الذين ننحدر منهم: وليوقد في قلوبنا الرّغبة في الشّركة، وينيرنا بحكمته ويمسحنا بتعزيته.