البابا فرنسيس يبدأ زيارته الرسوليّة إلى مالطا
بدأ قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم السبت زيارته الرسولية السادسة والثلاثين التي تحمله إلى مالطا حاجًا على خطى القديس بولس الرسول، ووصل إلى مطار مالطا الدولي عند الساعة العاشرة صباحًا حيث كان باستقباله السفير البابوي في مالطا المطران ألساندرو ديريكو وسفير مالطا لدى الكرسي الرسولي السيد فرانك زاميت ورئيس الجمهورية وعقيلته، وبعد تقديم الوفدين المرافقين رافق رئيس الجمهورية وعقيلته البابا إلى الصالة الرئاسية، وانطلقوا بعدها إلى القصر الرئاسي الذي بني عام ١٥٧١ في وسط العاصمة في لافاليتا. وصل الأب الأقدس إلى القصر الرئاسي عند الساعة العاشرة والخمسون دقيقة حيث كان بانتظاره رئيس جمهورية مالطا، السيّد جورج ويليام فيلا وعقيلته، بعدها توجّه البابا فرنسيس ورئيس الجمهورية إلى قاعة السفراء في القصر الجمهوري حيث عقد لقاء خاص بينهما عقبه تبادل للهدايا ولقاء مع عائلة رئيس الجمهورية وتوقيع للسجل الذهبي. وفي ختام اللقاء رافق رئيس الجمهورية الأب الأقدس إلى قاعة الوصفاء حيث التقى برئيس الوزراء السيّد روبرت أبيلا مع أسرته لبضع دقائق، بعد ذلك، توجه رئيس الجمهورية والبابا ورئيس الوزراء إلى قاعة المجلس الأكبر حيث تمَّ اللقاء مع السلك الدبلوماسي والسلطات، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة سلّط فيها الضوء على جزيرة مالطا، كـ "قلب المتوسط". لكن ليس فقط بسبب موقعها، وإنما لتشابك الأحداث التاريخية واللقاء بين الشعوب اللذين جعلا من هذه الجزر مركزاً للحيوية والثقافة والروحانية والجمال، وتقاطعَ طرقٍ عرف كيف يقدم الضيافة ويحقق التناغم مع شعوب قدمت من مناطق كثيرة.
وإذ أشار إلى التنوع الذي يميز شعوب مالطا توقف الأب الأقدس عند تنوع الرياح التي تميز هذا البلد، الرياح التي تهب غالبا على الجزر المالطية وهي رياح شمالية غربية، تذكر بأوروبا، وخصوصا ببيت الاتحاد الأوروبي، الذي شُيد كي تقطنه عائلة كبيرة متحدة في الحفاظ على السلام. وبرياح الشمال التي تمتزج غالبا مع الرياح القادمة من الغرب. إذ تتقاسم مالطا ولاسيما الشباب فيها أنماط الحياة والفكر الغربيين. ومن هنا تنبع خيور كثيرة من بينها أشار البابا بشكل خاص إلى قيمتي الحرية والديمقراطية مع الحفاظ على الذاكرة واحترام التناغم بين الأجيال، دون الانجرار وراء تجانس اصطناعي واستعمار أيديولوجي.
كذلك توقف الحبر الأعظم في كلمته عند الجنوب، من حيث يأتي العديد من الأخوة والأخوات باحثين عن الأمل. وشكر السلطات والسكان على الضيافة المقدمة لهؤلاء الأشخاص باسم الإنجيل والإنسانية، وحس الضيافة الخاص بالشعب المالطي. وفي هذا السياق تحدث البابا عن ظاهرة الهجرة التي ليست ظرفاً آنياً، بل تحمل معها ديونَ ظلم الماضي، والكثير من الاستغلال، فضلا عن التغيرات المناخية والصراعات الخطيرة التي يدفع ثمنها كثيرون. وفي إشارة إلى مأساة البحر الأبيض المتوسط دعا البابا إلى مسؤولية أوروبية متقاسمة، لكي يعود المتوسط مجدداً مسرحاً للتضامن، وكي لا يكون موقعاً للغرق المأساوي للحضارة. في سياق الحديث عن الغرق، أشار الحبر الأعظم إلى القديس بولس، الذي وخلال آخر رحلة له عبر المتوسط، وصل إلى هذه الشواطئ بطريقة غير متوقعة، ووجد النجدة. فبولس كان إنساناً يحتاج إلى الضيافة. ودعا البابا فرنسيس لكي نفتح قلوبنا على مصراعيها، ونكتشف من جديد جمال خدمة المحتاجين. ومساعدة بعضنا على عدم النظر إلى المهاجر كتهديد، وعلى عدم الاستسلام لتجربة رفع الجسور المتحركة وتشييد الجدران. لأنَّ الآخر ليس فيروساً ينبغي أن نحمي أنفسنا منه، بل هو شخص لا بد من استضافته، على الرغم من أن الضيافة تتطلب الجهد وتقديم تنازلات ولكنها من أجل خير أكبر، من أجل حياة الإنسان، الذي هو كنز الله.
كما ولم تخلُ كلمة البابا من الإشارة إلى الرياح القادمة من الشرق، من شرق أوروبا كما قال من الشرق حيث يُشرق النور، جاءت ظلمات الحرب. لقد اعتقدنا أن اجتياح بلدان أخرى، والقتال العنيف في الشوارع، والتهديدات النووية، باتت جزءا من الذاكرة المظلمة للماضي البعيد. لكن الرياح القارسة للحرب، التي لا تحمل سوى الموت والدمار والحقد، عصفت بتسلط على حياة العديد من الأشخاص، وعلى أيامنا جميعا. والآن وفي عتمة الحرب التي هبطت على البشرية، قال الحبر الأعظم يمكن لمالطا، التي تتألق بالأنوار في قلب المتوسط، أن تلهمنا، لأنه من الملح أن نعيد الجمال لوجه الإنسان الذي شوهته الحرب. وفي ختام كلمته توجه البابا فرنسيس
إلى الشرق الأوسط القريب، والذي ينعكس في لغة هذا البلد، التي تتناغم مع لغات أخرى، ما يذكر بقدرة المالطيين على صناعة تعايش مثمر في إطار الاختلافات. وقال هذا ما يحتاج إليه الشرق الأوسط: لبنان، سورية، اليمن ومناطق أخرى تعاني من المشاكل والعنف. لتستمر مالطا، قلب المتوسط، في الإبقاء على نبضات الرجاء والاعتناء بالحياة، واستقبال الآخر، والتوق إلى السلام، بمساعدة الله، الذي اسمه السلام.
هذا وقد تخلل اللقاء أيضًا كلمة لرئيس الجمهورية استهلها مرحبًّا بالأب الأقدس وشاكرًا إياه على زيارته التي تعطي المزيد من الثبات للعلاقات الوثيقة والتاريخية بين مالطا والكرسي الرسولي، والتي نمت وتعززت مع مرور الوقت. وإذ أشار إلى اللقاءات التي تمّت مع الأب الأقدس التي لمس خلالها اهتمام الحبر الأعظم بمالطا والتحديات الإقليمية التي تحيط بالجزيرة توقف عند الأحداث والأمور التي تغيّرت في هذه الفترة بسبب الجائحة التي هزّت الجماعة الدولية ولا تزال تدمر صحتنا واقتصاداتنا، وأعطتنا دروسًا في التضامن البشري لا يجب أن ننساها أبدًا. فقد علمتنا أننا بحاجة إلى العمل بجدية أكبر لتعزيز العدالة الاجتماعية العالمية، ولا سيما إلى تقاسم الموارد، سواء كانت بشرية أو مادية.
وأشار رئيس جمهورية مالطا في هذا السياق أيضًا إلى الحرب المروعة التي تشهدها أوروبا مرة أخرى بشكل مأساوي وإراقة الدماء على أراضيها بعد خمسة وسبعين عامًا من الحرب العالمية الثانية، حرب تظهر أسوأ وأفضل ما في البشرية معبرًا عن اتحاده مع الأب الأقدس ونداءاته من أجل الوقف الفوري لهذه الهجمات المروعة. بعدها توقف السيّد جورج ويليام فيلا عند الأزمة الإيكولوجيا التي تهدد الأرض فيما لا نزال نتجاهل العلامات الواضحة للتدهور البيئي وتغير المناخ واستغلال الموارد، وعند العامل المشترك بين جميع الصراعات الذي هو انتشار وبيع الأسلحة والمعدات والذخيرة وأكّد أن مالطا ستواصل القيام بمهمتها التأسيسية المتمثلة في تعزيز الحوار والاحترام المتبادل بين الأمم والثقافات والأديان التي تجعل بحرنا المتوسط المشترك فريداً من نوعه، وقال إن بناء السلام لا يزال هو دعوة مالطا، ولن نتخلى عن تصميمنا على مواصلة العمل في هذا الاتجاه. سنواصل السعي بنشاط لإيجاد حل إنساني وعادل ومنصف لقضية الهجرة غير النظامية. وإذ أشار إلى اهتمام الحبر الأعظم بهذه القضيّة أعاد التأكيد على أن مالطا لم تتنصل مالطا أبدًا من تعهداتها والتزاماتها بإنقاذ الأرواح، وقال لقد فعلنا ذلك وسنواصل القيام بذلك. ومع ذلك، بالنظر إلى حجمنا وقدرتنا على الاستيعاب، نواصل في طلب التضامن من البلدان الأخرى التي ليست في الطليعة، ولكن لديها الموارد والفرص والإمكانات لاستقبال المهاجرين.
وفي ختام كلمته أشار رئيس جمهورية مالطا إلى بعض الحلول الممكنة للقضايا الملحّة التي لا تزال مالطا تواجهها كدولة مستقلة مع الأعضاء الفاعلين في المجتمع الدولي، وقال نحن بحاجة إلى المضي قدما. يمكننا أن نبدأ باستعادة الثقة المتبادلة من خلال التحدث أكثر مع بعضنا البعض. يمكننا أن نبدأ بمزيد من التبادلات بين الأجيال والمزيد من الحوار. نحن بحاجة إلى تعزيز الروابط بين التربية والتعليم والسلام. علينا أن نصون العمل الكريم كأساس للعدالة والتضامن. كما علينا أيضًا أن نثمن دور المرأة بشكل أفضل في مختلف قطاعات المجتمع وأن نضع شبابنا بشكل متزايد على رأس التغيير الإيجابي وفي قلب التعايش السلمي. وهذه رحلة علينا أن نقوم بها معًا. وخلص رئيس جمهورية مالطا إلى القول ستبقى مالطا أمينة لالتزامها برعاية الفئات الأكثر ضعفًا في مجتمعنا. شكرًا لزيارتكم، من جهتنا نحن سنلتزم أكثر بالوحدة بيننا والسلام في منطقتنا. ونعدكم بأننا سنبقيكم في فكرنا وسنواصل، كما تطلبون منا دائمًا، الصلاة من أجلكم.