البابا فرنسيس: لنسمح ليسوع أن يُدهشنا، ولنقبل بفرح حداثته
في إطار زيارته الرسولية السادسة والثلاثين إلى مالطا ترأس قداسة البابا فرنسيس القداس الإلهي في ساحة "Piazzale dei Granai" في مدينة فلوريانا صباح يوم الأحد في الثالث من نيسان أبريل ٢٠٢٢ عاونه فيه رئيس أساقفة مالطا المطران تشارلز شيكلونا وعدد من أساقفة البلاد، وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها "عادَ يسوع عِندَ الفَجرِ إِلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه". هكذا يبدأ حدث المرأَة الزانية. تبدو خلفيّة الحدث هادئًة: صباح في المكان المقدس، في وسط أورشليم. الشخصيّة الرئيسيّة هي شعب الله، الذي وفي فناء الهيكل يبحث عن يسوع المعلّم: يرغب في أن يستمع إليه، لأنّ ما يقوله ينير ويدفئ. إن تعاليمه ليست مجرّدة، بل تلمس الحياة وتحرّرها، وتحوِّلها، وتجدّدها. هذا هو "حس" شعب الله، الذي لا يكتفي بالهيكل المصنوع من الحجارة، بل يجتمع حول شخص يسوع. في هذه الصفحة يمكننا أن نرى مؤمني كلِّ زمن، شعب الله المقدس، هنا في مالطا العديد والمفعم بالحياة، والأمين في البحث عن الرّبّ، والمرتبط بإيمان معاش. أشكّركم على هذا.
تابع البابا فرنسيس يقول أمام الشعب الذي يسرع إليه، لم يكن يسوع في عجلة من أمره. يقول الإنجيل: "جلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم". لكن كان هناك أماكن فارغة في مدرسة يسوع. كان هناك أشخاص غائبون: المرأة والذين يتهمونها. لم يذهبوا إلى المعلّم مثل الآخرين، وكانت أسباب غيابهم مختلفة: كان الكتبة والفريسيون يعتقدون أنّهم كانوا يعرفون كلّ شيء وأنّهم لا يحتاجون إلى تعليم يسوع؛ أما المرأة، فكانت شخص ضائع، انتهى بها الأمر خارج الطريق فيما كانت تبحث عن السعادة متَّبِعةً دروبًا خاطئة. كان غيابهم إذًا لأسباب مختلفة، كما كان لقصصهم أيضًا نهاية مختلفة. لنتوقف عند هؤلاء الغائبين.
أضاف الحبر الأعظم يقول نتوقّف أوّلًا عند الذين اتهموا المرأة. نرى فيهم صورة الذين يتفاخرون بأنّهم أبرار، ويحافظون على شريعة الله، وأنهم أشخاص محترمون وشرفاء. لا ينتبهون إلى أخطائهم، لكنّهم حريصون جدًا على البحث عن أخطاء الآخرين. هكذا ذهبوا إلى يسوع: لا بقلب منفتح لكي يصغوا إليه، بل "لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه". إنّها محاولة تبيِّنُ لنا ما في داخل هؤلاء الأشخاص المثقفين والمتدينين، الذين كانوا يعرفون الكتب المقدسة، ويتردّدون إلى الهيكل، لكنّهم كانوا يُخضعون كلّ هذا لمصالحهم الخاصة ولا يحاربون الأفكار الشريرة التي كانت تملأ قلوبهم. في نظر الناس، يبدو أنّهم كانوا خبراء في شؤون الله، ولكنّهم لم يتعرّفوا على يسوع، بل رأَوْا فيه عدوًّا يجب القضاء عليه. ولكي يفعلوا ذلك وضعوه أمام إنسانة، كما ولو كانت شيئًا، ودعوها بازدراء "هذه المرأة" وأدانوا علنًا زناها. ضغطوا لكي يتمَّ رجم المرأة بالحجارة، وسكبوا عليها كراهيّتهم لرحمة يسوع، وفعلوا هذا كلَّه تحت غطاء سمعتهم كرجال متدينين.
تابع الحبر الأعظم يقول أيّها الإخوة والأخوات، يقول لنا هؤلاء الأشخاص إنّه حتى في تديننا يمكن أن تتسلّل إلينا سوسة النفاق ورذيلة توجيه الاتهام. في كلّ زمان وفي كلّ جماعة، هناك على الدوام خطر عدم فهمنا ليسوع، وأن يكون اسمه على شفاهنا فيما نُكذِّبه بأفعالنا. ويمكننا أن نفعل ذلك أيضًا رافعين علامة الصّليب. لكن كيف نتحقّق من أننا تلاميذ في مدرسة المعلّم؟ من نظرتنا، من الطريقة التي ننظر بها إلى القريب، والطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا. أولاً من الطريقة التي ننظر بها إلى القريب: إذا قمنا بذلك كما يُرينا اليوم يسوع، أي بنظرة رحمة، أم بنظرة الدينونة، وأحيانًا بازدراء، مثل هؤلاء الذين كانوا يتّهمون في الإنجيل، معتبرين أنفسهم مدافعين عن الله، ولكنّهم لا يتنبّهون إلى أنّهم يدوسون على الإخوة. في الواقع، إنّ الذين يعتقدون أنّهم يدافعون عن الإيمان ويوجّهون أصابع الاتهام إلى الآخرين قد يكون لهم أيضًا رؤية دينيّة، ولكنّها لن تتناسب مع روح الإنجيل، لأنّها تفتقد إلى الرحمة التي هي قلب الله. لكي نفهم إن كنا تلاميذًا حقيقيّين للمعلم، علينا أيضًا أن نتحقق من الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا. كان متهمو المرأة مقتنعين بأنّهم ليسوا بحاجة إلى تعلُّم أي شيء. في الواقع، كان شكلهم الخارجي كاملاً ولكن كانت تنقصهم حقيقة القلب. إنّهم صورة للمؤمنين الذين، وفي كلِّ زمن، يجعلون من الإيمان مجرّد واجهة، ما يبرز منها فقط هو مظهرها الخارجي المهيب، لكن ينقصها الفقر الداخلي، الغنى الأثمن للإنسان. في الواقع، ما يهمُّ بالنسبة ليسوع هو الانفتاح المُستعدَّ للذين لا يشعرون بأنّهم قد وصلوا، وإنما بأنهم يحتاجون للخلاص. سيساعدنا إذًا، عندما نكون في الصّلاة وكذلك عندما نشارك في احتفالات دينيّة جميلة، أن نسأل أنفسنا إن كنا في تناغم مع الرّبّ؟ يمكننا أن نسأله مباشرة: "يا يسوع، أنا هنا معك، ولكن ماذا تريد مني؟ ماذا تريدني أن أغيّر في قلبي وفي حياتي؟ كيف تريدني أن أرى الآخرين؟". سيساعدنا أن نصلّي هكذا، لأن المعلّم لا يكتفي بالمظاهر، بل يبحث عن حقيقة القلب. وعندما نفتح له قلوبنا في الحقيقة، يمكنه أن يصنع فينا المعجزات.
أضاف البابا فرنسيس يقول نرى ذلك في المرأة الزانية. يبدو وضعها صعب، ولكنْ أمام عينيها ينفتح أفق جديد لا يمكن تصوره. إذ كانت تنهال عليها الشتائم، ومستعدة لتسمع كلمات حكم لا ترحم وعقوبات شديدة، رأت بدهشة أنّ الله قد غفر لها، وشرّع أمامها مستقبلاً غير متوقع. قال لها يسوع: "أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟ ... وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة". يا له من فرق بين المعلّم وبين متّهميها! هؤلاء اقتبسوا من الكتب المقدسة ليدينوها؛ أما يسوع، كلمة الله، أعاد المرأة إلى سلامتها الكاملة، وأعاد لها الرجاء. نتعلّم من هذه الحادثة أن كلّ ملاحظة، إذا لم تحركها المحبة ولم تكُن فيها المحبة، هي تُحطّم من ينالها؛ أما الله فهو يترك دائمًا إمكانية مفتوحة، ويعرف كيف يجد في كلّ مرة دروبًا للتحرير والخلاص. لقد تغيّرت حياة تلك المرأة بفضل المغفرة. وقد نُفكّر أيضًأ أنّها، إذ غفر لها يسوع، تعلّمت هي أيضًا أن تغفر بدورها. وربما لم تعد ترى في مُتّهميها أشخاصًا متشدّدين وأشرارًا، وإنما الذين سمحوا لها بأن تلتقي بيسوع. إنَّ الرّبّ يريدنا، نحن أيضًا، تلاميذَه، وككنيسة، إذ يغفر لنا، أن نصبح شهود مصالحة لا يكلّون: شهود لإله لا يعرف كلمة " ميؤوس منه "؛ لإله يغفر على الدوام، ويواصل ثقته بنا ويعطينا في كلّ مرة إمكانية البدء من جديد. لا توجد خطيئة أو فشل، إذا حملناه إليه، لا يمكنه أن يصبح فرصة لبدء حياة جديدة مختلفة، تحت علامة الرحمة.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول هذا هو الرّبّ يسوع. يعرفه حقًا من يختبر مغفرته. والذي معلى مثال امرأة الإنجيل، يكتشف أنّ الله يزورنا من خلال جراحنا الداخليّة. هناك بالتحدّيد يحب الرّبّ أن يحضر، لأنه لم يأتِ من أجل الأصّحاء بل من أجل المرضى. واليوم هذه المرأة التي عرفت الرحمة في بؤسها وانطلقت إلى العالم معافاة بعد أن نالت المغفرة من يسوع، تقترح علينا، ككنيسة، أن نضع أنفسنا مجدّدًا في مدرسة الإنجيل، مدرسة إله الرجاء الذي يفاجئنا على الدوام. إن اقتدينا به، لن نركّز على التنديد بخطايا الآخرين، وإنما سننطلق بمحبّة بحثًا عن الخطأة. ولن نكتفي بمعرفة عدد الحاضرين بل سنذهب بحثًا عن الغائبين. ولن نعود إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين، بل سنبدأ بالإصغاء إليهم. ولن نهمِّش المنبوذين، بل سننظر إلى الأخيرين كأنهم أوّلين. هذا ما يعلّمنا إياه يسوع اليوم بمثاله. لنسمح له أن يُدهشنا، ولنقبل بفرح حداثته.