البابا فرنسيس: يسوع هو الذي يضمّد القلوب ويشفي من جراح الماضي
في إطار زيارته الرسوليّة إلى كندا تراس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة العاشرة من صباح الخميس بالتوقيت المحلي القداس الإلهي في المزار الوطني للقديسة "Anne de Beaupré" في كيبيك وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها تُشكّل مسيرة تلميذَي عماوس، في ختام إنجيل القدّيس لوقا، صورة لمسيرتنا الشّخصيّة ولمسيرة الكنسيّة. على درب الحياة وحياة الإيمان، بينما نحمل قدمًا الأحلام والمشاريع والانتظارات والآمال التي تسكن في قلوبنا، نصطدّم أيضًا بهشاشتنا وضعفنا، ونختبر الهزائم وخيبات الأمل، وأحيانًا نبقى أسرى للإحساس بالفشل الذي يشلّنا. يُعلن لنا الإنجيل، في تلك اللحظة بالذات، إنّنا لسنا وحدنا: إنَّ الرّبّ يأتي للقائنا، ويقف إلى جانبنا، ويسير على دربنا بهدوء عابر سبيل لطيف يريد أن يفتح عيوننا من جديد وأن يضرم قلوبنا مجدّدًا. وعندما يترك الفشل فينا فُسحة للقاء الرّبّ، تولد الحياة على الرجاء، ويمكننا أن نتصالح مع بعضنا البعض: مع أنفسنا، ومع إخوتنا، ومع الله.
تابع البابا فرنسيس يقول لنتبع إذن مسار هذه المسيرة التي يمكننا أن نعنونها: من الفشل إلى الرجاء. أوّلًا، نجد الإحساس بالفشل الذي كان يسكن قلبَي هذَين التلميذَين بعد موت يسوع. كانا قد سعيا خلف حلم بحماس. وفي يسوع كانا قد وضعا كلّ آمالهما ورغباتهما. أما الآن، بعد الموت المشكّك على الصّليب، أدارا ظهريهما لأورشليم ليعودا إلى بيتهما وإلى حياتهما السّابقة. إنّ رحلتهما هي رحلة عودة إلى الوراء، وكمن يريدان أن ينسيا تلك الخبرة التي ملأت قلبيهما بالمرارة، لأن ذلك المسيح قد حُكِم عليه بالموت على الصّليب مثل المجرمين. لقد عادا إلى بيتهما مُحبَطَيْن، "مُكتَئِبَيْن": تلاشت الانتظارات التي غَذَّياها، وتحطّمتِ الآمال التي آمنوا بها، وتركت الأحلام التي كانوا يريدون تحقيقها مكانًا لخيبة الأمل والمرارة.
أضاف الأب الاقدس يقول إنها خبرة تتعلّق أيضًا بحياتنا ومسيرتنا الرّوحيّة، في كلّ مرة اضطُررنا فيها إلى تغيّير انتظاراتنا والتّعامل مع التباسات الواقع، وغموض الحياة، وضعفنا. يحدث لنا ذلك في كلّ مرة تصطدّم فيها مُثُلنا بخيبات الحياة، ولا نتمم مقاصدنا بسبب هشاشتنا، وعندما نعزز مشاريع خير ولكننا بعدها لا نملك القدرة على تنفيذها، عندما نختبر في النشاطات التي نسير بها قدمًا أو في علاقاتنا مع الآخرين، عاجلاً أم آجلاً بعض الهزيمة، أو بعض الأخطاء، أو فشلاً أو سقوطًا، فيما نرى أن ما كنّا نؤمن به أو كنّا قد التزمنا به قد انهار، وفيما نشعر بأنّنا نرزح تحت عبء خطايانا والشّعور بالذنب. هذا ما حصل لآدم وحواء في القراءة الأولى: فخطيئتهما لم تبعدهما عن الله وحسب، بل أبعدتهما عن بعضهما أيضًا، وصار كلّ واحد منهما يتَّهم الآخر. ونرى ذلك أيضًا في تلميذَي عماوس، إذ ترك بينهما شعورهما بالضّيق لرؤية مشروع يسوع ينهار مجالًا لنقاش عقيم. ويمكن لهذا الأمر أن يحدث أيضًا في حياة الكنيسة، في جماعة تلاميذ الرّبّ يسوع التي يمثلّها تلميذا عماوس. على الرّغم من أنّها جماعة القائم من بين الأموات، لكنّها قد تجد نفسها تائهةً ومحبطة أمام معثرة الشرّ وعنف الجلجلة. وبالتالي فلن يكون بإمكانها إلا أن تُمسك بين يديها الشعور بالفشل وتسأل نفسها: ماذا حدث؟ لماذا حدث ذلك؟ وكيف حدث ذلك؟
تابع الحبر الأعظم يقول أيّها الإخوة والأخوات، إنها الأسئلة التي يطرحها كلّ واحد منّا على نفسه، وهي أيضًا الأسئلة المُلحّة التي تردّد صداها في قلبها هذه الكنيسة التي تحج في كندا في مسيرة شفاء ومصالحة صعبة. نحن أيضًا، أمام معثرة الشرّ وجسد المسيح الجريح في جسد إخوتنا السّكان الأصليّين، نجد أنفسنا في مرارة ونشعر بثقل الفشل. اسمحوا لي إذن أن أتّحد روحيًّا مع العديد من الحجاج الذين يسيرون هنا على "الدرج المقدّس"، الذي يذكّرنا بصعود يسوع إلى دار بيلاطس؛ وأن أرافقكم ككنيسة في هذه الأسئلة التي تنشأ من قلب مليء بالألم: لماذا حدث كلّ هذا؟ كيف حدث ذلك في جماعة الذين يتبعون يسوع؟ لكن هنا، علينا أن نتنبّه من تجربة الهرب، الحاضرة في تلميذَي الإنجيل: العودة إلى الوراء، والهرب من المكان الذي وقعت فيه الأحداث، ومحاولة انتزاعها من عقولنا، والبحث عن "مكان هادئ" مثل عماوس لكي نكفَّ عن التفكير بالأمر. لا يوجد شيء أسوأ من الهرب إزاء مشاكل الحياة بدلاً من مواجهتها. إنّها تجربة العدو الذي يهدّد مسيرتنا الرّوحيّة ومسيرة الكنيسة: يريدنا أن نعتقد أنّ هذا الفشل قد أصبح نهائيًا، وأن يشلَّنا في المرارة والحزن، ويقنعنا أنّه لم يعد هناك شيء آخر نفعله، وبالتالي فلا يستحقُّ العناء أن نجد دربًا لكي نبدأ من جديد. لكن الإنجيل يكشف لنا أنّه في مواقف خيبات الأمل والألم وعندما نختبر مذهولين عنف الشّرّ، والخجلَ أمام الذنب، وعندما يجف نهر حياتنا بسبب الخطيئة والفشل، وعندما يتمّ تجريدنا من كلّ شيء ويبدو أنّه لم يبقَ لنا أيّ شيء، عندها يأتي الرّبّ للقائنا ويسير معنا. على الدرب نحو عماوس، أقترب الرب بهدوء لكي يشارك التلميذَين الحزينَين خطواتهما المُذعِنة. وماذا فعل؟ لم يقدّم لهما كلمات تشجيع عامة، أو عبارات ظرفيّة أو تعزيات سهلة، بل من خلال الكشف عن سرّ موته وقيامته في الكتاب المقدّس، أنار تاريخهما والأحداث التي عاشاها. وهكذا فتح أعينهما على نظرة جديدة للأمور. يمكننا نحن أيضًا الذين نشارك في الافخارستيّا في هذه البازيليك أن نعيد قراءة العديد من أحداث التاريخ. على هذه الأرض عينها كانت هناك ثلاثة هياكل في السّابق، وكان هناك أيضًا الذين لم يهربوا أمام الصّعوبات، بل عادوا يحلمون على الرّغم من أخطائهم وأخطاء الآخرين. لم يسمحوا بأن ينتصر عليهم الحريق المدمّر الذي حدث لمائة سنة خلت، وبشجاعة وإبداع، قاموا ببناء هذا الهيكل. والذين يشاركون في الإفخارستيا من "سهول إبراهيم" القريبة، يمكنهم أيضًا أن يفهموا روح الذين لم يسمحوا بأن يكونوا رهائنَ لكراهية الحرب والدّمار والألم، بل عرفوا مرّة أخرى أن يخطّطوا لمدينة وبلد.
أخيرًا، تابع البابا فرنسيس يقول أمام تلميذَي عماوس، كسر يسوع الخبز، وفتح أعينهما مجددًا وأظهر نفسه مرة أخرى كإله الحبّ الذي يبذل حياته من أجل أحبائه. بهذه الطريقة، ساعدهما لكي يستأنفا المسيرة بفرح، ويَبدَآ من جديد، وينتقلا من الفشل إلى الرجاء. أيّها الإخوة والأخوات، إنَّ الرّبّ يريد أيضًا أن يفعل الشيء نفسه مع كلّ واحدٍ منّا ومع كنيسته. كيف يمكن لأعيُننا أن تنفتح مجدّدًا وكيف يمكن لقلوبنا أن تضطرم مجدّدًا بشعلة الإنجيل؟ ماذا علينا أن نفعل فيما نُبتلى بتجارب روحيّة وماديّة متعددة، فيما نبحث عن الدرب نحو مجتمع أكثر عدالةً وأخوّة، وفيما نرغب في أن نتعافى من خيبات أملنا وتعبنا، وفيما نرجو أن نُشفى من جراح الماضيّ، وأن نتصالح مع الله ومع بعضنا البعض؟ هناك طريق واحد، درب واحد: إنّه درب يسوع، إنّه الدرب الذي هو يسوع. نحن نؤّمن أنّ يسوع يسير بقربنا فلنسمح له بأن يلتقينا، ولنسمح لكلمته أن تفسر لنا التاريخ الذي نعيشه كأفراد وجماعة، وأن تدلّنا على الدرب الذي علينا أن نتبعه لكي نُشفى ونتصالح مع بعضنا البعض. ولنكسر الخبز الإفخارستيّ معًا بإيمان، لكي نتمكن حول تلك المائدة من أن نكتشف مجدّدًا أننا أبناء محبوبون من الآب ومدعوون لكي يكونوا جميعًا إخوّة. من خلال كسر الخبز، أكّد يسوع ما عرفه التلميذان من شهادة النساء التي لم يريدا أن يصدِّقاها: أي أنّه قام من بين الأموات! في هذه البازيليك، التي نتذكّر فيها والدة مريم العذراء، والتي يوجد فيها أيضًا مغارة مخصّصة للعذراء مريم سيّدة الحبل بلا دنس، لا يمكننا إلا أن نسلِّط الضوء على الدور الذي أراد الله أن يعطيه للمرأة في مُخطّطه الخلاصيّ. إنَّ القدّيسة حنّة، ومريم العذراء الكليّة القداسة، ونساء صباح الفصح يُبيِّنن لنا دربًا جديدًا للمصالحة: يمكن للحنان الوالديّ للعديد من النساء أن يرافقنا - ككنيسة - نحو أزمنة خصبة جديدة، نترك فيها وراءنا الكثير من العقم والكثير من الموت، ونضع في المحور مجدّدًا يسوع المصلوب والقائم من بين الأموات.
أضاف الأب الأقدس يقول في الواقع، لا يمكننا أن نضع في محور أسئلتنا، والتعب الذي نحمله في داخلنا، والحياة الراعويّة أنفسنا وفشلنا، وإنما علينا أن نضعه هو، الرّبّ يسوع. في قلب كلّ شيء. لنضع في محور كلِّ شيء كلمته، التي تنير الأحداث وتعطينا مجددًا عيونًا لكي نرى الحضور العامل لمحبّة الله وإمكانية الخير حتى في المواقف التي يبدو أنّ لا أمل منها. ولنضع خبز الإفخارستيّا، الذي يكسره يسوع لنا اليوم أيضًا، لكي نتقاسم حياته مع حياتنا، فيعانق ضعفنا، ويعضد خطواتنا المتعبة، ويمنحنا شفاء القلب. وإذ نكون قد تصالحنا الله ومع الآخرين ومع ذواتنا، يمكننا نحن أيضًا أن نصبح أدوات مصالحة وسلام في المجتمع الذي نعيش فيه.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيّها الرّبّ يسوع، طريقنا وقوّتنا وعزاؤنا، نتوجّه إليك مثل تلميذَي عماوس: "أُمكُثْ مَعَنا، فقد حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار". أُمكُثْ معنا يا ربّ عندما يغيب الرّجاء ويظلِم ليل خيبة الأمّل. أُمكُثْ معنا لأنّ اتجاه المسيرة معك يتغيّر، يا يسوع، ومن أزقة عدم الثّقة العمياء تولد دهشة الفرح من جديد. أُمكُثْ معنا يا ربّ، لأنّ ليلة الألم معك تتحوّل إلى صباح حياة مشرق. لنقل ببساطة: أُمكُثْ معنا يا ربّ، لأنّك إن سرت إلى جانبنا، فإنّ الفشل سينفتح على رجاء حياة جديدة. آمين.