البابا يترأس رتبة سجدة الصليب لمناسبة الجمعة العظيمة. عظة الكاردينال رانييرو كانتالاميسا
ترأس قداسة البابا فرنسيس عند الساعة الخامسة من مساء الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الكاردينال رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي وقد استهلها بالقول على مدى ألفي عام، أعلنت الكنيسة واحتفلت، في هذا اليوم، بموت ابن الله على الصليب. في كل قداس، بعد صلاة التقديس، تعلن: "إِنَّنا نُبَشِّرُ بـموتِك، ونعتـرِفُ بقيامتك، إلى أن تأتيَ، يا رب". لكن، ومنذ قرن ونصف تمَّ الإعلان عن موت آخر لله في عالمنا الغربي المُعلمن. وعندما نتحدث في مجال الثقافة عن "موت الله"، فنحن نعني موت الله الآخر هذا، أي الأيديولوجي، وليس التاريخي. ولكي لا يتأخر بعض اللاهوتيين عن الزمان، سارعوا إلى بناء لاهوت على هذا الموت: "لاهوت موت الله".
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول لا يمكننا أن نتظاهر بتجاهل وجود هذه الرواية المختلفة، وبدون أن نترك العديد من المؤمنين فريسة للشك. وقد وجد هذا الموت المختلف لله تعبيره الكامل في الإعلان الذي وضعه نيتشه على فم "الرجل المجنون" الذي يصل لاهثًا في ساحة المدينة: "أين ذهب الله؟ - صرخ - سأخبركم! نحن قد قتلناه: أنا وأنتم! ... لم يكن هناك عمل أعظم. وجميع الذين سيأتون من بعدنا، بحكم هذا العمل، سينتمون إلى قصة أسمى من أي قصّة أخرى حتى يومنا هذا". في منطق هذه الكلمات - وأعتقد في توقعات مؤلفها - كان هناك أن التاريخ، بعده، لم يعد مقسومًا إلى ما قبل المسيح وبعد المسيح، وإنما إلى ما قبل نيتشه وبعد نيتشه. على ما يبدو، ليس العدم هو الذي يوضع مكان الله، بل الإنسان، وبصورة أدقّ "الإنسان الخارق". وعن هذا الرجل الجديد علينا أن نهتف - بشعور من الرضا والفخر، وليس بشعور من الرحمة: "Ecce homo!": هذا هو الإنسان الحقيقي! ومع ذلك، لن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لكي يُدرك الإنسان أنه عدم، إذا تُرك وحدَه. ماذا فعلنا لكي نفك هذه الأرض من سلسلة شمسها؟ إلى أين تتحرك الآن؟ إلى أين نتجه؟ بعيدا عن جميع الذين هم وحدهم؟ أليس هذا الأمر سقوط أبدي؟ هل مازال هناك صعود وهبوط؟ ألسنا نطوف وكأننا في عدم لامتناهٍ؟
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول إنَّ الجواب الضمني والمطمئن "للرجل المجنون" على أسئلته هذه هو: "لا، لن نطوف في عدم لامتناهٍ، لأن الإنسان سينجز المهمة التي كانت موكلة إلى الله إلى الآن!" أما جوابنا كمؤمنين فهو: "نعم، وهذا بالضبط ما حدث ويحدث! نحن نطوف وكأننا في عدم لامتناهٍ". من المهم أنه في أعقاب كاتب هذا الإعلان بالتحديد، توصلنا إلى أن نصف الحياة البشريّة على أنها "كيان للموت" وأن نعتبر جميع الاحتمالات المفترضة للإنسان "عدم منذ البداية". "أبعد من الخير والشر" كان هناك صرخة معركة أخرى للفيلسوف!؛ ولكن أبعد من الخير والشر لا يوجد سوى "إرادة القوة"، ونحن نعرف إلى أين تقود... لا يجوز لنا أن نحكم على قلب إنسان وحده الله يعرفه. حتى مؤلف هذا الإعلان كان له نصيبه من الألم في حياته، والألم يوحد بالمسيح ربما أكثر مما تُبعدنا الإهانات عنه. وبالتالي فصلاة يسوع على الصليب: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون"، لم يرفعها فقط من أجل الذين كانوا حاضرين على الجلجلة في ذلك اليوم...
تابع الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول تبادر إلى ذهني صورة لاحظتها في بعض الأحيان بشكل مباشر (والتي آمل أن تصبح حقيقة، في هذه الأثناء، لمؤلف ذلك الإعلان!): طفل غاضب يحاول أن يلكم ويخدش وجه أباه بقبضة يده، إلى أن استنفد قواه، أجهش في البكاء بين ذراعيه وهو يهدئه ويضمُّه على صدره. أُكرِّر لا يجب أبدًا أن نحكم على الشخص الذي وحده الله يعرفه. ولكن يمكننا لا بل علينا أن نحكم على ما تبع ذلك الإعلان. وبالتالي فقد تم تجسيد هذا الإعلان بأكثر الطرق والأسماء تنوعًا، إلى أن أصبح الأمر موضة، وجوًا نتنفَّسه في الدوائر الفكرية لغرب "ما بعد الحداثة". والقاسم المشترك لجميع هذه التجسيدات المختلفة هو النسبية الكاملة في جميع المجالات: الأخلاق، واللغة، والفلسفة، والفن، والدين بالطبع. لم يعد هناك أيُّ شيء ثابت. كل شيء سائل، أو حتى بخار. في زمن الرومانسية كنا نتقلّب في الكآبة، أما اليوم فنتقلّب في العدمية. من واجبنا كمؤمنين، أن نظهر ما وراء أو تحته هذا الإعلان، أي وميض اللهب القديم، الانفجار المفاجئ لبركان لم يتم إخماده منذ بداية العالم. إنَّ المأساة البشريّة كان لها أيضًا "مقدمة في السماء"، في "روح الإنكار" التي لم تقبل أن توجد بفضل روح آخر. ومنذ ذلك الحين، وهو يجند المؤيدين لقضيته، وأوَّلهم الساذجين آدم وحواء: "وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشر".
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول بالنسبة للإنسان المعاصر، يبدو أن كل هذا ليس أكثر من أسطورة سببيّة لشرح شر العالم. و- بالمعنى الإيجابي الذي يُعطى للأسطورة اليوم- هذا هو الواقع! لكن التاريخ والأدب وخبرتنا الشخصية تخبرنا أنه وراء هذه "الأسطورة" هناك حقيقة فائقة لا يمكن لأي سرد تاريخي أو تفكير فلسفي أن ينقلها إلينا. إنَّ الله يعرف كبرياءنا وقد جاء للقائنا، وتجرّد من ذاته أولاً أمام أعيننا. فالمسيح يسوع، "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة، بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب". "الله؟ نحن قد قتلناه: أنا وأنتم!" صرخ الرجل المجنون. حدث هذا الشيء المخيف في الواقع مرة واحدة في تاريخ البشرية، ولكن بمعنى مختلف تمامًا عن المعنى الذي قصده. لأن هذا صحيح أيها الإخوة والأخوات: نحن - أنتم وأنا - قد قتلنا يسوع الناصري! لقد مات من أجل خطايانا ومن أجل خطايا العالم أجمع! لكن قيامته تؤكد لنا أن هذا الدرب لا يسير نحو الهزيمة، وإنما وبفضل توبتنا، يؤدي إلى "تأليه الحياة"، الذي يسعى إليه الإنسان عبثًا في أماكن أخرى.
وختم الكاردينال رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي عظته بالقول لماذا الحديث عن هذا خلال ليتورجيا الجمعة العظيمة؟ ليس من أجل إقناع الملحدين بأن الله لم يمت! إنَّ أشهرهم قد اكتشفوا ذلك من تلقاء أنفسهم، في اللحظة التي أغلقوا فيها أعينهم على نور – لا بل على ظلام – هذا العالم. أما بالنسبة للذين ما زالوا على قيد الحياة، فهناك حاجة إلى وسائل أكثر بكثير من كلمات واعظ لإقناعهم. وسائل لن يخفيها الرب أبدًا عن القلوب المُنفتحة على الحقيقة. إنَّ السبب الحقيقي هو منع المؤمنين - وربما مجرد عدد قليل من طلاب الجامعة - من الانجذاب إلى دوامة العدمية التي تمثل "الثقب الأسود" الحقيقي للكون الروحي. وأن نجعل صدى التحذير الآني على الدوام لدانتي أليغييري يتردد بيننا: أيها المسيحيون، كونوا أكثر حكمة في إطلاق أحكامكم: لا تكونوا ريشة تتحرك مع كل ريح ولا تصدقوا أن أي ماء يمكنه أن يغسلكم. لنستمر، أيها الآباء الكرام، والإخوة والأخوات، في تكرارنا بامتنان وتأثُّر مقتنعين أكثر من أي وقت مضى، الكلمات التي نعلنها في كل قداس: "إِنَّنا نُبَشِّرُ بـموتِك، ونعتـرِفُ بقيامتك، إلى أن تأتيَ، يا رب!".