كلمة البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لمناسبة تبادل التهاني بحلول العام الجديد
استهل البابا فرنسيس كلمته بالقول هناك كلمة يتردّد صداها بشكل خاص في العيدَين المسيحيَين الرّئيسيَين، نسمعها في النشيد الذي أعلنه الملائكة في ليلة ميلاد المخلّص، ونسمعها من صوت يسوع القائم من بين الأموات: إنّها كلمة "سلام". إنَّ السّلام، في المقام الأوّل، هو عطيّة من الله: فهو الذي يترك لنا سلامه، ولكنّه في الوقت نفسه مسؤوليتنا: "طوبى لصانعي السّلام". إنّها كلمة هشّة، ولكنها في الوقت نفسه مُلزِمة وعميقة في معناها. ولهذه الكلمة أودّ أن أكرّس تأمُّلنا اليوم.
تابع الأب الأقدس يقول لا يسعني في هذا المقام إلّا أن أعيد التأكيد على قلقي إزاء ما يحدث في إسرائيل وفلسطين. لقد صدمنا جميعًا الهجوم الإرهابي الذي تعرَّض له السّكان في إسرائيل في ٧ تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، حيث أصيب العديد من الأبرياء وتعرضوا للتعذيب والقتل بطريقة فظيعة وتم أخذ العديد منهم كرهائن. أكرّر إدانتي لما حدث ولجميع أشكال الإرهاب والتّطرّف: بهذه الطّريقة لا تُحلّ القضايا بين الشّعوب، بل تزداد تعقيدًا وتسبّب الآلام للجميع. وفي الواقع، أدى ذلك إلى ردّ فعل عسكريّ إسرائيليّ شديد في غزّة أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين، ومن بينهم العديد من الأطفال والفتيان والشّباب، وسبّب وضعًا إنسانيًّا خطيرًا جدًّا وآلامًا لا يمكن تصوّرها. وبالتالي أعيد التأكيد على ندائي إلى جميع الأطراف المعنية من أجل وقف إطلاق النّار على جميع الجبهات، بما في ذلك لبنان، والإفراج الفوري عن جميع الرّهائن في غزّة. وأطلب أن يحصل السّكان الفلسطينيّون على المساعدات الإنسانيّة وأن تتمتّع المستشفيّات والمدارس وأماكن العبادة بكل الحماية اللازمة. أتمنى أن تجتهد الجماعة الدّوليّة بكلّ تصميم لتحقيق حلّ الدّولتين، دولة إسرائيليّة ودولة فلسطينيّة، ووضع خاص لمدينة القدس بضمانات دوليّة، لكي يتمكّن الإسرائيليّون والفلسطينيّون أخيرًا من العيش في سلام وأمن. إنّ الصّراع الدّائر في غزّة يزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة هشّة ومليئة بالتّوترات. ولا يمكننا أن ننسى بشكل خاص الشّعب السّوري، الذي يعيش في حالة من عدم الاستقرار الاقتصاديّ والسّياسيّ، تفاقمت بسبب الزّلزال الذي وقع في شباط/فبراير الماضي. لتُشجع الجماعة الدّوليّة الأطراف المعنية على بدء حوار بنَّاء وجادّ والبحث عن حلول جديدة، لكي لا يعاني الشعب السوري بعد الآن بسبب العقوبات الدولية؛ كما أعبّر أيضًا عن ألمي إزاء الملايين من اللاجئين السّوريين الذين ما زالوا في البلدان المجاورة، مثل الأردن ولبنان؛ وأتوجّه بفكر خاصّ إلى هذا الأخير، وأعبّر عن القلق بشأن الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ الرّاهن للشعب اللبنانيّ العزيز، وآمل أن يتمَّ حلّ الجمود المؤسّساتي الذي يدفعه إلى مزيد من الرّكوع، وأن يكون لبلاد الأرز رئيسًا عما قريب.
أضاف الأب الأقدس يقول وأبقى في القارة الآسيويّة، وأرغب في أن ألفت انتباه الجماعة الدّوليّة إلى ميانمار، طالبًا بذل جميع الجهود من أجل إعطاء رجاء لتلك الأرض ومستقبل لائق للأجيال الشّابة، دون أن ننسى حالة الطّوارئ الإنسانيّة التي ما زالت تعاني منها جماعة الرّوهينجا. للأسف، وبعد حوالي عامين من حرب واسعة النّطاق شنّها الاتحاد الرّوسي على أوكرانيا، فإنّ السّلام المنشود لم يجد بعد مكانه في العقول والقلوب، على الرّغم من الضّحايا العديدة والدّمار الهائل. كما أعرب عن قلقي إزاء الوضع المتوتر في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وأحثّ الطّرفين على التوصل إلى توقيع معاهدة سلام. ومن الملِّح أيضًا إيجاد حلّ للوضع الإنسانيّ المأساوي الذي يعيشه سكان تلك المنطقة، وتشجيع عودة النّازحين إلى ديارهم بشكل قانوني وآمن، واحترام دور العبادة لمختلف الطّوائف الدّينيّة الموجودة هناك. فمن شأن هذه الخطوات أن تساهم في خلق مناخ من الثّقة بين البلدين من أجل تحقيق السّلام المنشود.
تابع الحبر الأعظم يقول وإذا وجّهنا نظرنا الآن إلى أفريقيا، تظهر أمام عيوننا معاناة الملايين من الأشخاص بسبب الأزمات الإنسانيّة المتعددة التي تعيشها مختلف بلدان جنوب الصّحراء الكبرى، بسبب الإرهاب الدّولي، والمشاكل الاجتماعيّة والسّياسيّة المعقّدة، والآثار المدمّرة للمناخ، والتي يضاف إليها عواقب الانقلابات العسكريّة التي حدثت في بعض البلدان، وبعض العمليات الانتخابيّة التي اتسمت بالفساد والتّرهيب والعنف. وفي الوقت عينه، أجدد النّداء من أجل الالتزام الجاد من جانب جميع الأطراف في تطبيق اتفاق بريتوريا الذي أُبرم في تشرين الثّاني نوفمبر ٢٠٢٢، والذي وضع حدًا للقتال في تيغراي، وفي البحث عن حلول سلميّة للتوترات وأعمال العنف التي تعصف بإثيوبيا، وكذلك من أجل الحوار والسّلام والاستقرار بين دول القرن الأفريقي. ورغم عدم وجود حروب مفتوحة في الأمريكيَتَين، إلّا أنّ هناك توترات قويّة بين بعض الدّول، على سبيل المثال بين فنزويلا وغِيَّانا، بينما نلاحظ في بلدان أخرى، كما هو الحال في البيرو، ظاهرة الاستقطاب التي تهدّد التناغم الاجتماعيّ وتضعف المؤسسات الدّيمقراطيّة.
أضاف البابا فرنسيس يقول أصحاب السّعادة، سيداتي، سادتي، خلف هذه الصّورة التي أردت أن أرسمها بإيجاز ودون أيّ ادّعاء بالشّمول، هناك عالم ممزق، ولكن بشكل خاص هناك الملايين من الأشخاص - رجال ونساء وآباء وأمهات وأطفال - وجوههم غير معروفة، بالنسبة لنا وغالبًا ما ننساهم. قد لا نتنبّه أنّ الضّحايا المدنيين ليسوا "أضرارًا جانبيّة". بل هم رجال ونساء، ولهم أسماء وأسماء عائلات، ويفقدون حياتهم. إنّهم أطفال يبقون أيتامًا ويُحرمون من المستقبل. إنّهم أشخاص يتألّمون بسبب الجوع والعطش والبرد، أو تعرّضوا للتشويه بسبب قوة الأسلحة الحديثة. لو تجرّأنا ونظرنا إلى كلّ واحد منهم في عينيه، وناديناهم بأسمائهم، واستحضرنا تاريخهم الشّخصي، لرأينا الحرب على حقيقتها: لا شيء سوى مأساة فظيعة و"مجزرة عديمة الفائدة"، تنقض كرامة كلّ شخص على هذه الأرض. ولكن لكي نحقق السّلام، لا يكفي أن نزيل أدوات الحرب وحسب، وإنما علينا أن نقتلع أسباب الحرب من جذورها، وأوّلها الجوع، آفة تضرب مناطق بأكملها من الأرض، فيما نجد في أجزاء أخرى منها هدر كبير للطعام. ثمّ هناك استغلال الموارد الطّبيعيّة، الذي يغني القليلين، ويترك في البؤس والفقر شعوبًا بأكملها، كانت ستكون المستفيدة الطبيعية من هذه الموارد. ويرتبط بذلك استغلال الأشخاص، الذين يُجبَرون على العمل بأجور زهيدة وبدون آفاق حقيقية للنمو المهنيّ.
تابع الأب الأقدس يقول من بين أسباب الصّراع نجد ايضًا الكوارث الطّبيعيّة والبيئيّة. بالتّأكيد هناك كوارث لا تستطيع يد الإنسان السّيطرة عليها. أفكّر في الزّلازل الأخيرة التي ضربت المغرب والصّين والتي تسبّبت في سقوط مئات الضّحايا، وكذلك الزّلزال الذي ضرب تركيا وقسمًا من سوريا وخلَّف وراءه سلسلة رهيبة من الموت والدّمار. إلا أنَّ هناك كوارث تُنسب أيضًا إلى عمل الإنسان أو إهماله وتساهم بشكل خطير في أزمة المناخ المستمرّة، مثل إزالة غابات الأمازون، التي هي "رّئة الأرض الخضراء". إنّ اعتماد الوثيقة النّهائية في مؤتمّر الأطراف الثّامن والعشرين يمثّل خطوة مشجعة ويكشف أنّه إزاء الأزمات العديدة التي نشهدها، هناك إمكانيّة تنشيط التّعدديّة من خلال إدارة قضيّة المناخ العالمي، في عالم ترتبط فيه المشاكل البيئيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة ارتباطًا وثيقًا. لذلك آمل أن يؤدّي ما تمّ الاتفاق عليه في دبي إلى "تسريع حاسم للانتقال الإيكولوجي، من خلال أشكال تتحقّق في أربع مجالات: كفاءة استخدام الطاقة، والمصادر المتجدّدة، والقضاء على الوقود الأحفوري، والتّربية على أنماط حياة أقل اعتمادًا على هذا الأخير.
أضاف الحبر الأعظم يقول أيها السّفراء الأعزّاء، إنَّ درب السّلام يتطلّب احترام الحياة، كل حياة بشريّة، بدءًا من حياة الجنين في بطن أمه، التي لا يمكن القضاء عليها، ولا يمكن أن تصبح موضوعا للاستغلال التجاري. وفي هذا الصّدد، أرى أنّ ممارسة ما يسمى بتأجير الأرحام هو أمر مؤسف، ويجرح بشكل خطير كرامة المرأة والطّفل. ولذلك أتمنى أن تلتزم الجماعة الدّوليّة بحظر هذه الممارسة على المستوى العالميّ. إن درب السّلام يتطلّب احترام حقوق الإنسان، ويتعلق الأمر مبادئ واضحة موافقة للعقل ومقبولة بصورة عامّة. ولكن للأسف، فإنّ المحاولات التي تمَّ القيام بها في العقود الأخيرة لإدخال حقوق جديدة، لا تتفّق تمامًا مع تلك المحددة أصلًا وغير المقبولة دائمًا، قد أدت إلى ظهور ظاهرة الاستعمار الأيديولوجيّ، التي تلعب فيها دورًا رئيسيًّا نظريّة "الجندر"، التي هي أمر خطير جدًّا، لأنّها تمحوَ الاختلافات تحت شعار جعل الجميع متساوين. إنّ مثل هذا الاستعمار الأيديولوجيّ يسبّب الجروح والانقسامات بين الدّول، بدلًا من تعزيز بناء السّلام.
تابع الأب الأقدس يقول على الحوار أن يكون روح الجماعة الدّوليّة. ومن المؤكّد أنّ الحوار يتطلّب الصّبر والمثابرة والقدرة على الإصغاء، ولكن عندما نجتهد في محاولات صادقة لوضع حدّ للخلافات، يمكننا أن نحقِّق نتائج مهمّة. أفكّر، على سبيل المثال، في اتفاق بلفاست، المعروف أيضًا باسم اتفاق الجمعة العظيمة، الذي وقّعت عليه الحكومتان البريطانيّة والإيرلنديّة، وقد تمّ الاحتفال بالذّكرى السّنويّة الخامسة والعشرين له في السّنة الماضيّة. وقد وضع حدًّا لثلاثين سنة من الصّراع العنيف. إنّ درب السّلام يمرّ عبر الحوار السّياسيّ والاجتماعيّ، لأنّه أساس التعايش المدنيّ لمجتمع سياسي حديث. إنّ درب السّلام يمرّ أيضًا عبر الحوار بين الأديان الذي يتطلّب أوّلًا حماية الحرّيّة الدّينيّة واحترام الأقليات. يسبب القلق بشكل خاص تزايد الأعمال المعادية للسّامية التي حدثت خلال الأشهر الأخيرة، وبالتالي أعيد التأكيد مرّة أخرى على أنّه يجب اقتلاع هذه الآفة من المجتمع، لاسيما من خلال التّربية على الأخوّة وقبول الآخر. ويثير القلق بالمقدار نفسه تزايد الاضطهاد والتمييز ضدّ المسيحيين، لاسيما في السّنوات العشر الماضيّة. وأخيرًا، إنَّ درب السّلام يمرّ عبر التّربية، التي هي الاستثمار الرّئيسيّ للمستقبل وفي الأجيال الشّابّة. إنَّ جزء من التّحدي في التّربية في العصر الحديث، يتعلّق بالاستخدام الأخلاقيّ للتكنولوجيات الجديدة، والتي يمكنها أن تصبح بسهولة أدوات للانقسام أو نشر الأكاذيب، أو ما يسمى بالأخبار المزّيفة، ولكنّها أيضًا وسيلة للقاء والتّبادل وأداة مهمّة للسّلام. ولهذا السّبب رأيت أنّه من المهمّ أن أُكرِّس الرّسالة السّنويّة لليوم العالميّ للسّلام للذّكاء الاصطناعي، إحدى أهمّ تحديّات السّنوات المقبلة.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول يا أصحاب السّعادة، تستعد الكنيسة هذه السّنة لليوبيل الذي سيبدأ في عيد الميلاد المقبل. ربما نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى سنة يوبيليّة. إزاء الآلام العديدة التي تسبّب يأسًا ليس فقط في الأشخاص المتأثّرين بشكل مباشر، ولكن في جميع مجتمعاتنا. إزاء شبابنا، الذين بدلًا من أن يحلموا بمستقبل أفضل هم يشعرون غالبًا بالعجز والإحباط، وأمام ظُلمة هذا العالم، التي يبدو وكأنّها تنتشر بدلًا من أن تتبدّد، اليوبيل هو الإعلان أنّ الله لا يترك شعبه أبدًا وأنّه يُبقي على الدوام أبواب ملكوته مفتوحة. في التّقليد اليهوديّ المسيحيّ، اليوبيل هو زمن نعمة نختبر فيه رحمة الله وعطيّة سلامه. إنه زمن عدالة تُغفَرُ فيه الخطايا، وتتغلّب فيه المصالحة على الظّلم، وترتاح الأرض. ويمكنه أن يكون للجميع – مسيحيين وغير مسيحيين – الزّمن الذي تُضرب فيه السيوف سككًا، والزّمن الذي لا ترفع فيه أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب بعد ذلك. هذه هي الأمنية التي أتمناها من كلّ قلبي لكلّ واحد منكم، أيها السّفراء الأعزّاء، ولعائلاتكم ومعاونيكم، وللشّعوب التي تمثّلونها. شكرًا وسنة سعيدة للجميع!