البابا فرنسيس يبدأ زيارته الرعوية إلى مدينة ترييستي ويشارك في اختتام الأسبوع الاجتماعي الخمسين للكاثوليك في إيطاليا
شارك قداسة البابا فرنسيس فور وصوله مدينة ترييستي في شمال إيطاليا صباح اليوم الأحد ٧ تموز يوليو في زيارة رعوية في الأسبوع الاجتماعي الخمسين للكاثوليك الذي ينظمه مجلس أساقفة إيطاليا. وفي كلمته وجه الأب الأقدس أولا الشكر إلى كلٍّ من رئيس المجلس الكاردينال ماتيو زوبي والأمين العام للمجلس المطران جوزيبي باتوري على دعوته للمشاركة في الجلسة الختامية. ثم وجه قداسته التحية إلى المطران لويجي رينا رئيس اللجنة العلمية المنظِّمة للأسابيع الاجتماعية، كما وأراد البابا توجيه الشكر باسم الجميع إلى رئيس أساقفة ترييستي المطران إنريكو تريفيزي على الاستضافة.
تحدث البابا فرنسيس بعد ذلك عن كون تاريخ الأسابيع الاجتماعية، التي بلغت دورتها الخمسين، يتشابك مع تاريخ إيطاليا، وأضاف أن هذا يعني الكثير لأنه يُعَرفنا بكنيسة حساسة إزاء تغيرات المجتمع وراغبة في الإسهام من أجل الخير العام. ثم قال قداسته للمشاركين إنهم وانطلاقا من هذه الخبرة القوية قد أرادوا التعمق هذا العام في موضوع ذي آنية كبيرة، الا وهو "في قلب الديمقراطية. المشاركة ما بين التاريخ والمستقبل". ثم ذكَّر الأب الأقدس بكلمات الطوباوي جوزيبي تونيولو الذي أسس الأسابيع الاجتماعية ىسنة 1907 حين قال إن بالإمكان تعريف الديمقراطية بأنها ذلك النظام المدني الذي تتعاون فيه كل القوى الاجتماعية والقانونية والاقتصادية بشكل متناسب من أجل الخير العام مساهِمة في نتيجة هي في المقام الأول لصالح الطبقات السفلى. وواصل البابا فرنسيس انه من الواضح في ضوء هذا التعريف أن الديمقراطية في عالم اليوم لا تتمتع بصحة جيدة، وهذا أمر يهمنا ويثير قلقنا، قال البابا، وذلك لأن على المحك هناك خير الإنسان، وما من شيء إنساني حق إلا وله صداه في قلوبنا كمسيحيين، أضاف الأب الأقدس مستشهدا بكلمات الوثيقة المجمعية الدستور الرعائي في الكنيسة في عالم اليوم "فرح ورجاء".
وواصل قداسة البابا الحديث عن الديمقراطية مذكرا بأن النظام الديمقراطي في إيطاليا قد نضج بعد الحرب العالمية الثانية وذلك أيضا بفضل إسهام هام للكاثوليك. وأضاف أن بالإمكان الفخر بهذا التاريخ الذي ترك أثره في الأسابيع الاجتماعية أيضا. ثم أراد البابا التشديد على ضرورة التعلم من الماضي من أجل تحمل مسؤولية بناء شيء جيد في زمننا. وذكَّر قداسته هنا بالوثيقة الرعوية لمجلس أساقفة إيطاليا من عام ١٩٨٨ التي أعادت الأسابيع الاجتماعية حيث ذُكر في الوثيقة أن هدف هذه الأسابيع هو منح معنى لالتزام الجميع من أجل تغيير المجتمع، الاهتمام بمن يصبحون خارج العمليات والآليات الاقتصادية الجيدة أو يكونون على هامشها، منح فسحة للتضامن الاجتماعي في أشكاله كافة، دعم عودة أخلاقيات تهتم بالخير العام، ومنح معنى لتنمية البلاد باعتبارها تحسنا شاملا لجودة الحياة والتعايش الجماعي، للمشاركة الديمقراطية والحرية الحقيقية.
وتابع البابا فرنسيس أن هذه الرؤية والمترسخة في العقيدة الاجتماعية للكنيسة تشمل يعض أبعاد الالتزام المسيحي، وهي رؤية إنجيلية للظواهر الاجتماعية التي لا تعني الإطار الإيطالي وحده بل تشكل تحذيرا للمجتمع البشري بكامله ولمسيرة جميع الشعوب. وكما أن أزمة الديمقراطية تمس دولا وأطرا مختلفة فإن موقف المسؤولية إزاء التغيرات الاجتماعية هو بالشكل ذاته دعوة موجهة إلى المسيحيين جميعا أينما يعيشون ويعملون، في كل مكان من العالم.
ثم تحدث الأب الأقدس عما وصفها بصورة تختصر كل هذا، وهي الصورة التي اختارها مجلس الأساقفة رمزا لهذه الدورة من الأسابيع الاجتماعية، القلب. وانطلاقا من هذه الصورة قال البابا فرنسيس إنه يريد اقتراح تأملين من أجل المسيرة المستقبلية. وهكذا تحدث قداسته أولا عن إمكانية تخيل أزمة الديمقراطية كقلب جريح. وتابع البابا متحدثا عن المشاركة المحدودة للمواطنين كما وأشار إلى أن الفساد واللاشرعية يكشفان قلبا أصابته سكتة، كما ويجب أن تقلقنا الأشكال المختلفة من التهميش الاجتماعي، ففي كل مرة يهمَّش فيها أحد يعاني الجسد الاجتماعي بكامله. وواصل الأب الأقدس أن ثقافة الإقصاء تقدم لنا مدينة لا مكان فيها للفقراء، للمواليد الجدد، للأشخاص الضعفاء، للمرضى والأطفال والنساء والشباب. لقد أصبحت السلطة ذاتية المرجعية، قال البابا فرنسيس، وغير قادرة على الإصغاء إلى الأشخاص وخدمتهم. ثم ذكَّر الأب الأقدس بكلمات للسياسي الكاثوليكي الإيطالي ألدو مورو الذي قال إن الدولة لا تكون ديمقراطية بالفعل إن لم تكن في خدمة الإنسان، وإن لم تكن أهدافها كرامة الشخص البشري وحريته واستقلاليته. لفت البابا الأنظار من جهة أخرى إلى أن الديمقراطية لا تعني مجرد تصويت الشعب، بل هي تستدعي خلق الظروف كي يتمكن الجميع من إبداء الرأي والمشاركة. وأضاف الأب الاقدس أن المشاركة ليست أمرا يُرتجل بل يجب تعلمها في الصغر وفي الشباب والتدرب عليها، وذلك أيضا بحس نقدي في مواجهة الإغراءات الإيديولوجية والشعبوية. وذكَّر قداسة البابا هنا بحديثه أمام البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي عن أهمية إبراز الإسهام الذي يمكن للمسيحية ان تقدمه اليوم للتنمية الثقافية والاجتماعية الأوروبية وذلك في إطار علاقة سليمة بين الدين والمجتمع. وشدد قداسته بالتالي على أهمية إطلاق حوار مثمر مع الجماعة المدنية والمؤسسات السياسية بعيدا عن الإيديولوجية من أجل تأمل مشترك وذلك بشكل خاص حول القضايا المتعلقة بحياة الإنسان وكرامته. وأضاف البابا فرنسيس أنه ولتحقيق هذا الهدف يظل مثمرَين مبدآ التضامن والتكافل، كما وشدد على أن الديمقراطية تقتضي دائما الانتقال من التشجيع إلى المشاركة ومن التحيز إلى الحوار. وتابع الأب الأقدس مشددا على أن لكل شخص قيمته وأهميته وأضاف أنه ما أن ظل نظامنا الاقتصادي والاجتماعي يولّد ضحية واحدة، وما دام هناك حتى شخص واحد مستبعَد، فلن نتمكن من الاحتفال بالأخوّة الشاملة. وتابع قداسته مشددا على أن المجتمع الإنساني والأخوي هو قادر على العمل من أجل ضمان مرافقة الجميع في حياتهم، بطريقة فعالة ومستمرة، لا فقط لتأمين احتياجاتهم الأساسية، بل وليتمكنوا من تقديم أفضل ما لديهم، حتى لو لم يكن أداؤهم الأفضل ولو كانوا بطيئين أو كانت فعاليتهم قليلة. فعلى الجميع ان يشعروا بكونهم جزءً من مشروع مشترك ولا يجوز أن يشعر أحد بأنه غير مفيد. وأضاف البابا هنا أن بعض أشكال المساعدات التي لا تعترف بكرامة الإنسان هي رياء اجتماعي وتناقض الديمقراطية ومحبة القريب بينما وصف اللامبالاة بسرطان الديمقراطية.
ثم انتقل البابا فرنسيس إلى الحديث عن التأمل الثاني ألا وهو التشجيع على المشاركة كي تبدو الديمقراطية كقلب تم علاجه، وهنا توجد حاجة إلى الإبداع. ثم أشار قداسته إلى الكثير من علامات عمل الروح القدس في حياة العائلات والجماعات بل وحتى في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والمجتمع. ودعا هنا إلى التفكير مثلا فيمن يفسحون مجالا داخل النشاطات الاقتصادية لأشخاص يعانون من إعاقات، أو في بعض العاملين الذين يتنازلون عن بعض حقوقهم كي لا يُفصل آخرون من عملهم، في جماعات الطاقة المتجددة التي تشجع الإيكولوجيا المتكاملة من خلال الاهتمام أيضا بالعائلات المعانية من فقر طاقوي، أو في المسؤولين الذين يدعمون الولادات والعمل والتعليم، الخدمات التربوية وتوفير إمكانيات السكن والنقل للجميع ودمج المهاجرين.
إن الأخوّة تجعل العلاقات الاجتماعية تثمر، واصل الأب الأقدس مشيرا من جهة أخرى إلى أن العناية أحدنا بالآخر تتطلب شجاعة التفكير في أنفسنا كشعب. وأضاف البابا فرنسيس أن هذه الكلمة، الشعب، غالبا ما تُفسَّر بشكل سيء ما قد يؤدي إلى القضاء على كلمة ديمقراطية في حد ذاتها والتي تعني حكم الشعب. وشدد الأب الأقدس أن هذه الكلمة، الشعب، ضرورية لتأكيد كون المجتمع أكثر من مجرد مجموع أفراد، كما ومن الصعب جدا التخطيط لشيء كبير وطويل الأمد إن لم يتحول إلى حلم جماعي.
وفي ختام كلمته دعا البابا فرنسيس إلى عدم الانخداع بالحلول السهلة وإلى الشغف بالخير العام. وتحدث من جهة أخرى عن واجب عدم التلاعب بكلمة ديمقراطية أو تشويهها بعناوين خاوية من المحتوى قادرة على تبرير أية أفعال. وشدد الأب الأقدس على أن الديمقراطية ليست علبة فارغة بل هي مرتبطة بقيم الإنسان وبالأخوّة والإيكولوجيا المتكاملة. وتابع أننا ككاثوليك لا يمكننا أن نكتفي بإيمان هامشي أو شخصي، ولا يعني هذا انتظار أن يتم الإصغاء إلينا بل يعني في المقام الأول التحلي بالشجاعة لتقديم مقترحات عدالة وسلام في النقاش العام. فنحن لدينا ما نقول، واصل البابا، ولكن لا دفاعا عن ميزات، وعلينا أن نكون صوتا يدين ويقترح في مجتمع غالبا ما يكون فيه كثيرون بلا صوت. ووصف الأب الأقدس هذا بالمحبة السياسية التي لا تكتفي بمداواة التبعات بل تعمل على مواجهة الأسباب. وأضاف أن الجماعة المسيحية بكاملها مدعوة إلى هذه المحبة السياسية، ودعا إلى التنشئة على هذه المحبة لاستعادة الشغف المدني وإلى أن نتعلم بشكل أكبر وأفضل السير معا كشعب الله كي نكون خميرة مشارَكة في الشعب الذي نحن جزء منه. وأشار البابا هنا إلى أن على السياسي أن يعرف شعبه ويقترب منه وأن يكون مثل الراعي وسط شعبه، وأمامه وخلفه. كما وأشار البابا فرنسيس إلى أهمية أن يتمتع العلمانيون الكاثوليك في إيطاليا بالقدرة على ما وصفه بتنظيم الرجاء وأضاف أن السلام ومشاريع السياسة الجيدة يمكنها أن تنشأ من الأسفل. شدد قداسته بالتالي على إعادة إطلاق ودعم ومضاعفة الجهود من أجل تنشئة اجتماعية وسياسية تنطلق من الشباب، وتقاسُم ثراء التعليم الاجتماعي للكنيسة. وأشار في هذا السياق إلى المسيرة السينودسية التي تشكل تدريبا على التمييز، وأيضا إلى السنة اليوبيلية القادمة التي علينا فيها أن نكون حجاج رجاء من أجل إيطاليا الغد، قال قداسته للمشاركين في الأسبوع الاجتماعي.